تقاس حيوية المجتمعات بالنسب العمرية فيها، ففي الوقت الذي تتسع فيه شريحة الشباب يجري الحديث عن مجتمعات فتية قادرة على البناء وتحسين ظروف الحياة، وبانحسار هذه الشريحة تشيخ التجمعات البشرية ويبدأ البحث عن حلول لإحداث توازنات.
في شرق الكوكب وغربه رصيد وافر من التجارب لتصويب اختلالات المعادلة، بدءا من تشجيع العائلات على الإنجاب ومرورا بفتح الباب أمام الهجرات من البلدان النامية، لاسيما ان البلدان المستقبلة للمهاجرين تتوفر على ظروف حياة افضل من البلدان الطاردة للشباب.
جرت العادة ان تركز الدول المستقبلة للمهاجرين الشباب على المتعلمين منهم وأصحاب الكفاءات لسهولة دمجهم في المجتمعات والاستفادة من خبراتهم في شتى المجالات.
ووفق هذه الآلية يكون هناك طرف مستقبل وآخر طارد للكفاءات الشبابية المعول عليها في التنمية والبناء، بحيث يستطيع القادر على الاستقطاب الخروج من أزماته، مقابل تفاقم أزمات الطرف الطارد للفئات العمرية القادرة على الإبداع والعمل.
في السنوات التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر تكونت معادلة جديدة، جرى تحول في نظرة الدول المستقبلة للمهاجرين الشباب القادمين من البلاد العربية والإسلامية، وأصبحت هذه الطاقات الشابة من وجهة نظر حكومات البلدان المستقبلة قوة دمار، يتم تخصيص الموارد وتجييش عناصر الأمن وابتكار الوسائل الأنجح للحد من خطرها.
أحداث ما بعد تدمير برجي التجارة في منهاتن لم تكن عنصر التنبيه الوحيد لهذه الدول التي تتابع كل شاردة وواردة في هذا العالم للحفاظ على رفاهية وأمن شعوبها، فمن أحداث منطقتنا التقطت ما يكفي من الشواهد على صحة استنتاجاتها، وفي المحصلة صار للشاب العربي الراغب بالاندماج في حياة تلك المجتمعات صورة الباحث عن الموت من أجل إلحاق الأذى بالآخرين او العمالة الرثة التي تركب سفن الموت بحثا عن الأمن في عالم آخر.
وبقدر ما أفسد شذوذ فعل الإرهاب الحياة في مجتمعاتنا، وشوه صورة العرب والمسلمين أمام الآخر، حرمنا من نعمة التفاعل مع الحضارات المعاصرة، والاستفادة من نتاجاتها وإنجازاتها.
تفرض علينا هذه المنعطفات البحث عن تفكير مختلف، يتيح لنا الخروج من دائرة ندب الحظوظ العاثرة، ببناء شباب سوي يوفر ضمانات الأمن والاستقرار والتنمية والبناء لمجتمعه، ويجعلنا اكثر تصالحا مع أنفسنا ومجتمعاتنا ومستقبلنا وأجيالنا.
ندرك اننا نبدأ متأخرين بعد ضياع ما يزيد عن العقدين في دوامات العنف والعنف المضاد، فقدان ظروف ومقومات التنمية، وتنامي ثقافة الخراب والعدم بين أبنائنا، ونعلم ان الطريق طويل أمامنا، لكن ان نصل متأخرين أفضل من ألا نصل.
الزمن لا يتوقف، ولا ينتظر المتباطئين، لا يرحم العاجزين عن قراءة أزماتهم، ولا مجال أمامنا سوى التقاط زمام المبادرة بفعل تنويري، يعيد الاعتبار لقيم التسامح في ديننا، وثقافات من سبقونا، يعلي من شأن العلم في نفوس الأجيال الشابة باعتباره طريقا للنهوض من كبوات متلاحقة، يبعد أبناءنا عن الآفات الفكرية التي تحولهم الى قوة تدميرية، ويدفعهم الى ميادين الإبداع والعمل، مثل هذا الفعل لا تقوم به الحكومات وحدها ولا تستطيع النخب إنجازه بمعزل عن رعاية الدول، الجميع مطالب بالتفكير، والإدلاء بدلوه، وعلى الله الاتكال.