إن من أعظم أهداف الرسالة المحمدية بناء الفرد الصالح والمجتمع الفاضل وفق المنهج الرباني بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل لإيجاد الإنسان الخليفة والأمة الربانية المتآلفة المتآخية المتوادة التي يعمل فيها الفرد لمصلحة الجماعة، والجماعة لمصلحة الفرد، في توازن وتناسق وتكامل يؤدي الى إيجاد المجتمع الفاضل والأمة الفاضلة والإنسانية السعيدة التي لطالما راودت احلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر السنين، وظلت في عالم الخيال، ولم تتحقق في عالم الواقع إلا في ظل التربية القرآنية والقيادة النبوية.
فالأمة المسلمة ليست تكتلا او حشدا او كيانا عدائيا، تقيم علاقاتها بالآخرين على أساس الهيمنة والقهر العقائدي، بل هي في المفهوم الإسلامي مشروع راق للحضارة الإنسانية التي تجسد معنى الاستخلاف في الأرض، وهذا هو معنى «الخيرية»، التي هي مضمون حضاري يحقق، وليست لقبا يعطى أو صفة تضفى.
في هذا السياق، تناولت د. فاطمة عمر نصيف في كتابها "الأخلاق في الميزان" مفاهيم تتعلق بموضوع الأخلاق من زوايا عدة ستنشرها "الأنباء" تباعا في حلقات.
لقد حذر القرآن من الخلق السيئ يتبع الصدقة والزكاة فيبطلها ويفقدها معناها ويحبط اجرها وثوابها، قال تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها اذى والله غني حليم، يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) «البقرة: الآية 263 ـ 264»، وقيل: المن: أي يستخدمه بالعطاء، والأذى ان يعيره بالفقر، وقيل المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى أن ينتهره او يوبخه بالمسألة، «فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى، لا ضرورة لها وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح، كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضا والبشاشة، ومغفرة تغسل احقاد النفوس، وتحل محلها الاخاء والصداقة.
فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الاولى للصدقة، من تهذيب النفوس وتأليف القلوب، ولان الصدقة ليست تفضلا من المانح على الآخذ، وانما هي فرض لله، عقب عليه بقوله: (والله غني حليم) «البقرة: الآية 263» غني عن الصدقة المؤذية، حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون.
ولذلك نجد ان الله عز وجل يمدح عبـــاده المنفقين، الذين ينفقون في سبيله، فيخرجـــون الصــــدقات والزكاة بنفس طيبة، وأدب جم وخلـــق رفيــــع، فيعدهم بالثــــواب العظيــــم، قـال تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منا ولا اذى لهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) «البقرة: الآية 262».
يمدح تبارك وتعالى في هذه الآية الذين ينفقون في سبيله ثم لا يتبعون ما انفقوا من الخيرات والصدقات على من اعطوه، فلا يمنون به على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل، ولا يفعلون مع من احسنوا اليه مكروها يحبطون به ما سلف من الاحسان، ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل.
بل اعتبر البخل (هذه الرذيلة الخلقية) سببا للهلاك والبوار والخسران، قال تعالى: (وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واحسنوا ان الله يحب المحسنين) «البقرة: الآية 195».
يقول ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: «ومضمون الآية، الامن بالانفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف الاموال في قتال الاعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والاخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالاحسان وهو اعلى مقامات الطاعة»، وفي المقابل جعل الله اجر السخي محبة الله فعقب على ذلك بقوله تعالى: (وأحسنوا ان الله يحب المحسنين) «البقرة: الآية 195»، ليبين لنا منزلة الخلق عنده ومنزلة الجود والكرم، فالامساك عن الانفاق هلاك للنفس بالشح، وهلاك للجماعة بالمنع والبخل.
الأخلاق والصوم
فرض الله الصوم وبين الحكمة من تشريعه، فقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) «البقرة: الآية 183».
يقول تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الامة وآمرا لهم بالصيام وهو الامساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.
والتقوى منبع الفضائل، او كما عرفها الحسن بن علي رضي الله عنه، قال: «هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل»، فالعلة التي ذكرتها الآية وهي حصول التقوى لان التقوى هي اس الفضائل، وبها يحصل المرء على خيري الدنيا والآخرة.
الصوم تربية على الصبر
«فالصوم تقوية للارادة، وتربية على الصبر، فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك الا ربه، ولا سلطان الا ضميره، ولا يسنده الا ارادته القوية الواعية، يتكرر ذلك نحو خمس عشرة ساعة او اكثر في كل يوم، وتسع وعشرين يوما او ثلاثين في كل عام، فأي مدرسة تقوم بتربية الارادة الانسانية وتعليم الصبر الجميل كمدرسة الصيام».
وهكذا عرفنا كيف يحقق الصوم التقوى، فإذا سادت التقوى على القلب ساد الجمال في الطباع والاخلاق، واذا ساد الجمال في الطباع والاخلاق سادت الألفة والمحبة في البيت والمجتمع، واذا سادت المحبة والألفة في المجتمع ساد السلام في الارض.
الصوم عبادة يحبها الله ويجزي عليها ما لا يجزي على غيرها من الفضائل والاعمال والعبادة، فعن ابي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به».
صوم الجوارح
ولكن هذه العبادة العظيمة لابد ان تؤدي الى حسن خلق، فليس الصيام مجرد امساك عن الطعام والشراب والشهوة، بل هو صوم الجوارح عن الآثام، فقد جاء عن ابي هريرة رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصيام جنة فلا يرفث، ولا يجهل، وان امرؤ قاتله او شاتمه فليقل: إني صائم مرتين».
فكان من ارشاداته صلى الله عليه وسلم للصائم ان يلتزم بالآداب الاسلامية والاخلاق الحسنة، والسلوك السليم، وان يمتنع عن كل قول او فعل مخل بالأدب، ومناف للاخلاق، ومن كل تصرف فيه اذى للغير، ولم يكتف بذلك بل يريد من المسلم ان يترفع عن ذلك ويستعلي عليه، فيمتنع حتى عن رد الأذى بمثله.
بل زاد على ذلك بأن توعد عليه الصلاة والسلام وتهدد المتهاون بتلك الارشادات، فقال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه»، فإذا لم يضبط المسلم سلوكه وتصرفاته ولم يملك نفسه عند الغضب، فخالف تلك الارشادات اثناء صيامه، فقدمها عبادة خالية من الاخلاق، يأتي القرار الاخير منه صلى الله عليه وسلم ببطلان هذه العبادة، ويعلن ذلك بقوله: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش»، فكما ان الطعام والشراب يفسد الصيام، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتحبط عبادته وتفسد ثمرته، فيصبح صياما بلا ثواب.
الحج ومكارم الأخلاق
الحج هو الشعيرة الرابعة في الاسلام فرضها الله على كل مستطيع، وجعل تركه كفرا بالله، يشترط المولى سبحانه عند أدائه الاخلاق الفاضلة والانضباط التام في السلوك، قال تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب) «البقرة: الآية 197».
فالحج لابد ان يخلو من الرفث والفسوق والجدال «فالرفث التعريض بذكر الجماع وقيل: كل ما يعاب من قول او فعل، والفسوق قيل: المعاصي، وقيل: الفاحش من القول كالسباب وخلافه، وقيل: الفسوق هاهنا السباب، قاله ابن عباس وابن عمر الزبير ومجاهد والسدي وابراهيم والحسن، وقد يتمسك هؤلاء بما ثبت في الصحيح: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
ومعنى «ولا جدال» قيل ان المراد به هاهنا المخاصمة فعن عبدالله بن مسعود قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ولا جدال في الحج، المراد والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك».
وقد جاء في الحديث الشريف ما يوضح ذلك ويبينه بما لا يدع مجالا للقول بأنها تؤدى فقط وليس للأخلاق علاقة بذلك؛ حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
الانضباط الخلقي شرط قبول الحج
فقبول هذه العبارة مشروط بالانضباط الأخــــلاقي في القول والفعل ويتضمن الحج معاني عظيمة كلها تدور في دائرة النظام الأخلاقي في الإسلام. فالحج تعويد للنفـــس على معانٍ: من استسلام وتسليم ومن بذل الجهد والمال في سبيـــــل الله، ومن تعـــــاون وتعارف ومن قيـــــام لله بشعـــائر العبودية، وكل ذلك له آثـــــاره في تزكيــــة النفس.
ولكي يؤدي الحج ثمراته الكاملة لابد من مراعاة الآداب والأعمال القلبية فيه، ومنها أن تكون النفقة حلالا. وترك الرفث والفسوق والجدال، والرفث اسم جامع لكل لغو وخنا وفحش، ويدخل فيه مغازلة النساء والتحديث بشأن الجماع ومقدماته لأنه يهيج داعية الجماع المحظور. والفسق اسم جامع لكل معصية والجدال المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق في الحال الهمّة ويناقض حُسن الخُلق.
هذا هو الإسلام في سموّه وعظمته وشموخه وفي تشريعه، دين الأخلاق الفاضلة والمبادئ الإنسانية، الدين الذي يربي أفراده على الأدب والانضباط ومكارم الأخلاق.