إن من أعظم أهداف الرسالة المحمدية بناء الفرد الصالح والمجتمع الفاضل وفق المنهج الرباني بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل لإيجاد الإنسان الخليفة والأمة الربانية المتآلفة المتآخية المتوادة التي يعمل فيها الفرد لمصلحة الجماعة، والجماعة لمصلحة الفرد، في توازن وتناسق وتكامل يؤدي الى إيجاد المجتمع الفاضل والأمة الفاضلة والإنسانية السعيدة التي لطالما راودت احلام الفلاسفة والمصلحين والمفكرين عبر السنين، وظلت في عالم الخيال، ولم تتحقق في عالم الواقع إلا في ظل التربية القرآنية والقيادة النبوية.
فالأمة المسلمة ليست تكتلا او حشدا او كيانا عدائيا، تقيم علاقاتها بالآخرين على أساس الهيمنة والقهر العقائدي، بل هي في المفهوم الإسلامي مشروع راق للحضارة الإنسانية التي تجسد معنى الاستخلاف في الأرض، وهذا هو معنى «الخيرية»، التي هي مضمون حضاري يحقق، وليست لقبا يعطى أو صفة تضفى.
في هذا السياق، تناولت د. فاطمة عمر نصيف في كتابها "الأخلاق في الميزان" مفاهيم تتعلق بموضوع الأخلاق من زوايا عدة ستنشرها "الأنباء" تباعا في حلقات.
إن من اعظم مميزات النظام الإسلامي انه نظام اخلاقي تقوم تشريعاته وتنظيماته وكل معاملاته على أساس خلقي متين، فلا يوجد عمل واحد في الإسلام صغر او كبر خارج عن نطاق الأخلاق، او قائم على غير ذاك الأساس الأخلاقي الشامل الذي يشمل كل تصرفات الإنسان ويجعلها علاقة بين الإنسان وربه قبل ان تكون علاقة بين فرد وفرد.
فالحياء في ضوء الإسلام نظام خلقي يقوم على اشاعة الفضيلة بين افراد المجتمع وإقامة العدل في نظامه السياسي وتنفيذ أحكام الشرع، ونظام اجتماعي نواته الأسرة الصالحة وركيزته التكافل والتراحم، ونظام اقتصادي لحمته العمل والإنتاج، وتحقيق العدالة الاجتماعية فالعقيدة من الشريعة كالثمرة من الشجرة فلابد من التلازم بين العقيدة التي تستقر في القلب وآثارها التي تظهر في السلوك والمعاملات والعلاقات بين الافراد والجماعات.
فالباحث في فقه المعاملات يرى بوضوح ان الخلق القويم، والنهج المستقيم هو الاصل وان العدل والإحسان هو القاعدة، وهذا ما سأوضحه عند استعراضي لأنواع من المعاملات.
أ ـ الأخلاق والنظام الاقتصادي
وهذا النظام يقوم اصلا على قاعدة خلقية كبيرة وهي قول الحق تبارك وتعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا ـ البقرة: 275)، فلا ربا ولا استغلال، ولا احتكار ولا غبن ولا غرر ولا غش ولا خبث في الاقتصاد الاسلامي، بل تجارة قائمة على تبادل المنافع، وعلى التراضي، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم ـ النساء: 29)، ويقول ابن كثير في تفسير الآية: «ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن ان يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل اي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك، من سائر صنوف الحيل وان ظهرت في غالب الحكم مما يعلم الله ان متعاطيها انما يريد الحيلة على الربا».
فكل صفقة سواء كانت مشاركة او مضاربة او مرابحة او مؤاجرة، بل كل بيع او شراء، يتضرر فيه احد الطرفين يكون في حكم الشرع باطلا، بينما نرى الاقتصاد اليوم، في غيبة الأخلاق، في حضارة القرن العشرين قد فصل الاقتصاد عن الأخلاق، فكان نتيجة ذلك ما نراه اليوم من ازمات اقتصادية كبيرة تطالعنا بها الصحف والمجلات كل يوم، وما نراه من فقر الإنسان وفاقته بل موته جوعا، حيث عمت المجاعات اغلب المعمورة رغم التقدم التكنولوجي والإنتاج المادي الضخم.
ب ـ الأخلاق ونظام الأسرة
إن من أبرز العلاقات الاجتماعية التشريعات الخاصة بالأسرة، فالعلاقة الزوجية بين الزوجين في شريعة الإسلام تقوم على 3 أسس خلقية عظيمة:
1 - المعروف والإحسان: وصف الله عز وجل التعامل بين الزوجين على أنه تعامل بالمعروف لأن السمة الأصلية الثابتة لكل المعاملات هي أن تكون بالمعروف، وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم. قال تعالى موصيا الأزواج: (وعاشروهن بالمعروف ـ النساء: 19). يقول ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: «أي طيبوا أقوالكم لهن وأحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله».
وقال تعالى: (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ـ البقرة: 231). جاء في الظلال: «ان المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها، ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرا من عناصرها ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق، التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية، عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان أرفع النعم إلى نعمة الصحة والرزق، واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان عن إيثار المعروف والجميل والحسنى سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها».
وحتى يتم الزواج أو الفراق بنفس الأخلاق الراقية العظيمة، قال تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ـ البقرة: 229).
2 - العدل: ويكون بتحقيق المساواة وهي المعاملة بالمثل قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ـ البقرة: 228).
فعندما فرض الله عز وجل على كل منهما واجبات أعطى في المقابل لكل منهما حقوقا ليستشعر كل منهما العدالة في قرارة نفسه، فيكون كل منهما أقدر على العطاء فيعيشان في سعادة ووئام. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «أي ولهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن استنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي، لأن الله تعالى قال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ـ البقرة: 228) أي زينة في غير مأثم، وعنه أيضا: أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن».
وفي ذلك يقول محمد دروزة: «إنما تعني الآية فيما تعنيه أن كل ما يحق للزوج طلبه وانتظاره من زوجته من أمور مشروعة من طاعة وأمانة وعفة وإخلاص وحسن معاشرة ومعاملة، ومودة واحترام وثقة وتكريم وبر وترفيه ومراعاة مزاج ورعاية مصلحة وقضاء حاجات وعدم مشاكسة وعنف وبذاءة ومضاربة ومضايقة وأذى وسوء خلق وتكبر وتجبر وازدراء وتكليف ما لا يطاق ـ يحق للزوجة طلبه وانتظاره من زوجها».
3 - الشورى: فالإسلام يجعل العلاقة بين الزوجين قائمة على مبدأ الشورى، فلا تحكم ولا تسلط فالتفاهم على أمر من الأمور يتعلق بهما يجب أن يتم بالتشاور، قال تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ـ البقرة: 233).
وهذه الآية تبين حكم المرأة المطلقة، فإذا كان هذا هو حق المطلقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، فمن باب أولى أن يكون هو حق الزوجة، القائمة في البيت على رعاية جميع شؤونه.
«فلا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا للابتزاز ولا للاستغلال، ولا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ليهددها فيه أو تقبل رضاعه بلا مقابل، ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها».
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عند تقييم الزوج، فإنما يقيمه بأخلاقه فيجعل أفضل الأزواج هو من كان أحسن الأزواج لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: «وخياركم خياركم لنسائهم خلقا».
بل إن الإسلام ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فهو يطلب من المسلم أن يتأدب وينضبط سلوكيا، ويلتزم بالأدب والذوق حتى في حالة انفصال عرى المحبة وفي أصعب المواقف وأحرج اللحظات ـ حالة الفراق إلى غير رجعة ـ لم ينس القرآن أن يحث المسلم على ذلك فيقول عز وجل موصيا الزوج الراغب في الطلاق بعدم التعدي: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا. وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ـ النساء: 20 و21). وقوله: (ولا تنسوا الفضل بينكم ـ البقرة: 237)، والفضل هو الزيادة على الحق.
فالطلاق يصبح هو الحل في حالة عدم تمكن الزوجين من الاستمرار في حياة زوجية مشتركة يسودها الود والحب، ولكن الطلاق الذي يريده الشارع الحكيم طلاق بالمعروف «فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق وما ورثت من مال لا يجوز استرداد شيء منه ولو كان قنطارا من ذهب فأخذ شيء منه إثم واضح، ومنكر لا شبهة فيه، ومن ثم لمسة وجدانية عميقة في تعبير موح عجيب (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ويدع الفعل «أفضى» بمفعول محدد، يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه ويلقي كل ظلاله ويسكب كل إيحاءاته فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير».
كما ينهى الله الأزواج عن المضارة. قال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ـ النساء: 19). أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه. يقول ابن كثير: «ولا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. يعني الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر. يضرها لتفتدي به».