يقال: كثيرا ما كنا نتمنى أن يعود الزمان علينا دقائق لتعود كل تفاصيله، لنقتنص منه لحظة الفرح التي غادرتنا وغادرت معها أشياء أخرى كثيرة.
وعلى الرغم من ذلك، كثيرا ما كنا نستعجل الأيام والسنين في صغرنا، لنرى بكل شغف الحياة كما يراها ويعيشها من هم اكبر منا، نعيش بانتظار أن يمضي العمر بسرعة بنا، لنستغل تلك الفرص لحياة أنسب وأجمل بروعتها، لنستشعرها بقدر ما كنا شغوفين لها، طامعين بأن نسابق الزمن لنكتشفها.
فكم كنا تواقين لأن نصبح كأولئك الكبار الذين كنا نسرح بابتساماتهم، وجمال حياتهم، فرحهم، كلامهم، لقاءاتهم، شخصياتهم، ولم نلحظ للأسف ذلك الشحوب الذي كان متسللا إلى أغمارهم على غفلة منهم! بسبب سطحية حكمنا وصغر سننا، وبسبب حسن ظننا بمظهرهم اللامع الذي كنا نراه دائما فيهم! إلى أن كبرنا! وخضنا الحياة وتعلمنا الكثير منها، كبرنا وتوسعت مداركنا، كبرنا وتغيرت كثيرا نظرتنا، وتغيرت علينا دنيانا وغيرتنا، كبرنا ونهبتنا السنوات وسرقت منا أحلامنا وتاهت للأسف في رمال هذا الزمن أمانينا، تغيرت في القلوب مشاعرنا، وتغيرت بالمرايا ملامحنا، وتبخرت منا أحلامنا وضاعت شواطينا.
كبرنا، وفي عقولنا حيرة، لأسئلة أتعبتنا كثيرة، حيرة بسبب ما رأيناه من زيف تلك البدايات الجميلة! والابتسامات المبهمة زائد التناقضات الغريبة والتي كانت للجدل مثيرة! «إلى أن تمنينا أن يرجع الزمان للوراء بنا، لنبقى صغارا كما كنا».
صغارا لا نعي من الأمور غير اليسير، صغارا نتحاشى كل عسير، وكي نصغي فقط لصوت خيالاتنا، وجمال وعفوية أفكارنا، وشقاوة تصرفاتنا، ولنمسك بفرشاة ألواننا، ونغير من خلالها طلاء جداراتنا، ونخفف من غلاظة قضبانها، لنتخلص من وجوم ضباباتها.
صغارا، لنعيش على سرد قصص الماضي بأروع الحكايات، وبروح نقية صافية نستنشق عبق الحياة، ولا تسع قلوبنا غير الحب والفرح والخير.
يقول الشاعر جرير:
ليت الزمان لنا يعود بيسره
إن اليسير بذا الزمان عسير
يا قلب هل لك في العزاء فإنه
قد عيل صبرك والكريم صبور
فغالبا عندما نكبر نردد ونقول: ليتنا نعود لنعيش بأنفس كاملة وإن كان النقص فيها أمر فطري، ليتنا نعود بأنفس مشعة تنير بضيائها أيامنا وتنفض غبار سنيننا، علنا نستشعر بنكهة تفاصيلها الحقيقية، لنخرج عقولنا من نظرة وضحكة خافتة، ونبدلها بنظرة ملؤها البشرى والحب والامتنان.
وصغار لأننا، لم يخطر قط على بالنا، بأننا سنفتقد لأبسط الأمور ولمصداقيتها، كأحاسيسنا ولذة مشاعرنا، كوضوحنا وصدقنا، كلهفة تواصلنا حتى مع اقرب الأشخاص إلينا.
كبرنا وكبرت معنا همومنا وزادت أحزاننا ونسينا عفويتنا، كبرنا ورأينا ما بين هذا وذاك فواصل جمة، فواصل بسببها تضاءلت محبتنا وخوفنا على بعضنا، وزادت في المقابل أنانية الكثير منا، ثقلت وتغيرت النفوس، وتناسينا قلوبا تعايشت منذ الصغر معنا، إلى أن هرمت وتبلدت عواطفنا، ولم نعد نشعر حتى بدفء علاقاتنا.
كما فقدنا أيضا أشياء لم تكن أبدا في الحسبان فقدانها، يقول الشاعر ابن زيدون:
أبا عامر، أين ذاك الوفاء؟!
إذ الدهر وسنان، والعيش غض؟
وأين الذي كنت تعتد من مصادقتي؟!
الواجب المفترض!
تشوب وأمحض مستبقيا،
وهيهات من شاب ممن محض.