كتب البلاء على أهل هذه الدار، وجعل الله أنبياءه ورسله أشد الناس بلاء ثم من أشبههم من عباده الأخيار.
وخلق الباري سبحانه (الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وليعلم الصادقين من الكاذبين والمرائين، وليعلم المتقين من الفجار والمنافقين، وتيقنوا أن آية الإيمان الصبر على البلاء، والشكر عند العطاء، وأن المؤمن الصالح إذا لزم الصبر والشكر فإنه يتقلب من أجر إلى أجر، ومن خير إلى خير، فإن الصبر والشكر مطيتان لا تكبوان.
قال عمر رضي الله عنه: «لو أن الصبر والشكر مطيتان، لم أبال أيتهما ركبت، ولو كان الصبر من الرجال كان كريما»، وقال علي بن أبي طالب: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد.. ثم قال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له».
فالصبر: هو تحمل البلوى من غير شكوى، وقيل: تحمل الغصص من غير عبس، فهو خلق كريم يمنع من فعل ما لا يحسن، وأركانه ثلاثة: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن فعل مالا يرضي الله سبحانه، وليس معنى الصبر ألا تدمع العين، وألا يحزن القلب، وألا يتأثر المرء، وألا تتألم الروح، ولكن الصبر معناه عدم التسخط بما قدره الله وقضاه علينا، فبعض الناس تفاجئه البلية، وتلهيه المصيبة للأسف فيخونه الصبر، ويفوته عظيم الأجر.
والمصائب والمحن تتفاوت تفاوتا كبيرا، وقد تكون المصيبة عظيمة فتحتاج إلى صبر جميل، وعقل رشيد، وإيمان شديد، وتوفيق من الله وتسديد، وقد يحتاج المرء معها ما يسلي به نفسه، ويهون عليه مصيبته، ويعينه على الصبر الجميل، وقد ذكر العلماء أمورا تعين على حسن الصبر والرضا، منها هو ان تعلم أن ما نزل بك إنما هو قضاء الله وقدره، وأن قدر الله لا يرد، فالقدر لا مهرب منه، ولا محيد عنه ولا دافع له، فلو اجتمع كل الناس على أن يردوا عنك هذا الذي نزل بك، لم يقدروا إلا بأمر الواحد القهار، وأن تعلم أن كل الناس مبتلى، وأنك لست وحدك في هذا الطريق، فالابتلاء قانون عام وسنة كونية يخضع له كل إنسان، والدنيا دار فناء، ومنزل اختبار وابتلاء، فلا ينجو من بلائها غني ولا فقير، ولا مؤمن تقي، ولا كافر شقي، فانظر حولك وتأمل، واعلم أن الجزع لا يرد المصيبة، فالجزع على الفرصة الذاهبة لا يعيدها، والجزع على السيارة المحطمة لا يصلحها، والجزع على المال الضائع أو الهالك لا يرجعه، والجزع على المريض لا يشفيه، كما أن الجزع على الميت لا يحييه، وتأكد أنه ما من بلية إلا ولله فيها أربع عطايا وزيادة: أنها لم تكن أكبر منها، وأنها لم تكن في الدين، وما يدخر الله فيها من الأجر، وما يفتح بسببها من الخير، فإن الإنسان يصاب بمصيبة فتفتح عليه أبواب التوبة والأوبة والتذلل إليه سبحانه، والانكسار بين يديه، فيقربك منه حتى ربما تنسى مصيبتك من حلاوة ما تجد من الأنس بالله سبحانه (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه).
فاللهم ارزقنا حسن الصبر، فوحدك المعين على البلاء، وأنت المأمول لحسن الجزاء، آمين.