أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها الكثير من المنصات تغرق بمليارات من الثواني المبثوثة المثقلة بالتفاهة مع الاغتباط الذاتي الشديد، هذا بخلاف التفاهة المصدرة والمنشورة والتي تشكل خطرا على الأخلاق، والتي جرفت معها للأسف ضحايا، كثر منهم مثقفون ورجال أعمال وأكاديميون صغرت عقولهم وباتوا ينافسون الحمقى والمعاتيه على تلك المنصات ويحشرون أنوفهم معهم بغية التباهي بالذات والاستعراض الأبله الاستهلاكي، بل والزهو الأحمق بالذات وسط مبررات رخيصة، مشوهة غير موزونة، إلى أن تحولت وأصبحت الآن هي معركة العصر.
وتلك الظاهرة التي خصص لها أستاذ الفلسفة الكندي ألان دونو، كتابا كاملا بعنوان «نظام التفاهة» وذكر فيها أن الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل هي مجرد مواقع للقاء الافتراضي وتبادل الآراء لا أكثر، فيها يتكون العقل الجمعي من خلال منشورات متتابعة، زائد الفكر التراكمي السريع الذي يبلور وبسرعة وبدقة موضوعا محددا نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالا من التفاعل (المناظرات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد)، ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع والمنصات في ترميز التافهين، أي تحويلهم إلى رموز، ما جعل الكثير من تافهي مشاهير تلك المنصات يظهرون لنا بمظهر النجاح! فاليوم للأسف تغير كل شيء، حتى الصمت صارت له تداعيات مخيفة، في اللحظة التي ينظر فيها إلى الامتناع عن ممارسة خيار ما، فيصبح هذا الامتناع وكأنه هو بحد ذاته خيار، فيعاقب أو يمتدح على هذا الأساس، كما ملأت هذه التفاهة صمت بعض العقلاء، وجر هذا المحتوى التافه ما تباهت به البشرية من منجزات أدبية وفنية وإدارية وسياسية وتاريخية، ذلك ولأن التفاهة أصبحت ليست بمجرد سوق له نظامه وأسعاره وطرق التداول فيه فقط، وإنما صار يحمل معه قيما جديدة تتعلق بالسلوكيات والأخلاق والعادات والتقاليد وطرق أساليب العيش وتداول بعض العبارات المخلة للآداب والمفردات القبيحة... إلخ.
وتكمن الخطورة الحقيقية للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة، في ظل ما يحاصرنا من دعاوى التسليم والانقياد الفكري الأعمى تحت مسميات إطلاقية كالحلال والحرام والعيب وتقديس الأشخاص والرأي العام والأغلبية... إلخ، والأدهى من ذلك حين يتحول هذا المحتوى التافه إلى موضوع للتسلية، أو وسيلة للإضحاك، او أمرا يستدعي البهجة والقهقهة فقط لجلب الأضواء ولفت الانتباه.
فيصبح الواقع الغريزي والأناني هو الأساس في تعامل طارح المحتوى التافه مع متابعيه، بل وقد تجده يتحداهم بكل فخر إن استطاعوا تجاوز أدبياته وسلوكياته من دون اضطراره لاستماع آراء معارضيه ومنتقديه.
فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة، وأن بعض الناس اصبحوا يشابهون هذه المتغيرات المتوسطة إلى حد ما، وما هو أخطر من ذلك، هو ألا يشعر التافهين بخطر تلك التفاهة وانتشارها.
فاليوم من ينجو من هذا الطوفان الجارف ينجو من شر عظيم، وإنما العاقل هو من حرس نفسه وعقله وأهله من تلك البيئات المنحطة القادرة على جعل الوجود أجوف لا معنى له، ففي نظام التفاهة يجعلون من كل شيء سهلا، حيث لا يصبح للنجاح معايير مميزة أو طعما مختلفا للوصول إلى سلمه.