يحدث أحيانا أن تغزو الكآبة والضيق والخوف مزاجك من دون سبب واضح، تتسلل إليك بصمت، تنشب مخالبها في أوصال روحك، تعتقلك ضمن دوامة قاتمة من أفكار سوداء غامضة، لا تدرك مبعثها، يحيطك حينها الغضب والتوتر والأسى والإحساس بالخيبة والخذلان فجأة، ومن دون أدنى مقدمات، فتجد نفسك غارقا في الحزن الثقيل الذي يوجع قلبك والخوف الذي يسكن جوارحك، وتصبح من شخص مرح سعيد يبث السعادة والبهجة فيمن حوله إلى شخص بائس تعيس، يغمره الإحساس باليأس واللاجدوى، يسيطر السخط على مفرداتك، تفقد الرغبة في كل شيء، وتبدو منسحبا على الرغم عنك من إيقاع الحياة الهادر.
هي مشاعر سلبية بالغة الخطورة من شأنها تكبيل طاقاتنا ودحرها، وهي بمنزلة أكبر هزيمة تلحق البنيان النفسي لنا، ولا أحد منا محصن من المرور بتجربة كهذه في مرحلة ما من مراحل حياته، قال تعالى في كتابه العزيز: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) (سورة محمد)، كما قال تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف) (سورة البقرة)، و(بشر الصابرين)، أي ان الله يبتلينا بشيء يسير من الخوف، او بتعسر الظروف وغيرها الكثير من الامور التي قد تحدث معنا ليختبرنا ويخبرنا بأن الدنيا دار بلاء وابتلاء، فقد ابتلى قبلنا أنبياءه وصفوته، لتطيب
أنفسهم فقال: (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا).
فقد وقع الكثير من الخوف على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب، حيث اجتمع عليهم الخوف الشديد بسبب تحزب الأحزاب عليهم من كل حدب وصوب من المشركين والأعراب وغيرهم، ومحاصرتهم المدينة، وما وقع ذلك الخوف عليهم إلا بأمر من عنده، فما نحن إلا عبيد مملوكون لله سبحانه، مدبرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، سواء حين تغزونا الكآبة او يغزونا الضيق او الخوف.. إلخ، بسبب أو من غير سبب، أيا كان الأمر، فهذه هي طبيعة الدنيا «الابتلاء»، وإن لم يوطن المؤمن نفسه على ذلك، ويتخذ الصبر عدة له، فسوف ينغص على نفسه حياته، ويضيع عليها أجره.
قال الشاعر:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته
لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط، وينظر إلى الابتلاء باعتباره قضاء لربه، ويجب ان يكون من عباد الله الشاكرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها».
فإن الصبر والرضا بقضاء الله تعالى وقدره ركن الإيمان الركين، هو سبب للطمأنينة والسعادة، والعاقل يدرك أن الله سبحانه يبتلي الإنسان فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وأمر الله نافذ، لذلك يجب ان نعود انفسنا على التماسك امام أقدار الله تعالى مهما كانت، فلا يدري احدنا من أين يأتيه الخير، فأحيانا يأتي الخير في صورة شر، لينال الإنسان درجة من عند الله ما كان لينالها إلا بصبره على هذا البلاء، ذلك وبكثرة لجوئه إلى الله تعالى، وهذه حكمة عظيمة جدا.
لذلك المؤمن الصادق ينبغي أن يعود إلى الله وينيب إليه ويتضرع إليه وان يرى سعادته في مواطن الأقدار، كما قال عمر بن عبدالعزيز، والحق أن الإنسان لا يرى من البلاء إلا وجها واحدا، وإلا فكم من منحة جاءت في شكل محنة، وكم من نعمة جاءت في شكل مصيبة.