سياسة النفس، ومراعاتها في أحوالها المختلفة وتقلباتها المتعددة، وضع لها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دستورا خاصا بها يبين لنا من خلاله ما يصلح لها في حالة قد لا يصلح لها في حالة أخرى، إذ يقول: «إن للقلوب شهوة وإقبالا، وفترة وإدبارا، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها».
فتأرجح النفس البشرية بين حالات متناقضة كما أشرنا توا، يؤكد من منظور أوسع، حاجة تلك النفس إلى الخلود إلى الراحة بين الفينة والأخرى، وإلى حسن تنظيم الوقت، حتى في أوقات الفراغ! لأنها تحتاج إلى اللهو والترويح أحيانا كحاجتها إلى العمل الجاد، فهي لا تستقيم على وتيرة واحدة بل تحب التنوع، ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فالتمسوا لها من الحكمة طرفا»، وكان عبدالله بن عباس رضي الله عنه إذا أفاض في القرآن والسنن، قال لمن عنده: «أحمضوا بنا»، أي: خوضوا في الشعر والأخبار وما يروح عن النفس.
لذلك ينصح دائما أنه في حال الإقبال والنشاط بأن يتم الإكثار من الأعمال مهما كانت تلك الأعمال تحتاج إلى جهد وتعب، وأما في حال الفتور والخمول فعلينا بالعكس، أي بأن يتم الاقتصار على الضروري من الأعمال، وتأجيل ما يمكن تأجيله إلى حال النشاط والجد.
فكثيرا ما يجد الإنسان نفسه وقد ضاقت عليه، حتى لا يكاد يجد منفذا لنفسه! وتكاثرت عليه الهموم، وتداخلت الأفكار، وفترت همته، بحيث لا يجد قدرة على التركيز في عمل واحد، أو لا يجد من نفسه أصلا إقبالا على أي عمل، وقد تستمر هذه الحالة مغلفة بشيء من الحزن والضجر والملل، أو اليأس والقنوط، وهو إن استسلم لذلك، ولم يحاول أن يسلك ما يخفف عنه هذه الهموم، فإنه قد يتردى في مهاو لا نهاية لها من الجزع، والقنوط من رحمة الله، وفقدان الثقة بالذات، وانعدام الأمل في لحظة أفضل.
وهذه الحالة من تقلب المشاعر وفتور الهمة، قد تعتري أي إنسان منا مهما أوتي من رجاحة العقل، وقوة الإرادة، والثقة بالنفس، فإن القلوب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا، كما جاء في الحديث الشريف، غير أن اختلاف الناس وتفاوتهم إزاء هذا التقلب والتأرجح يكمن في القدرة على تدارك الذات، وانتزاعها من الحلقة المفرغة، والخروج بها من هذه الحالة العارضة، حتى لا تكون تلك الحالة طبعا متأصلا، وسلوكا معتادا؛ لأنها يجب أن تظل استثناء يثبت استقرار النفس واتزانها.
وإن لم يخب ظني، فإنني اعتقد بأن السبب الرئيسي الذي يمكن أن يكون من وراء هذه الحالة غير السوية هو الفراغ، خاصة إذا كان في المراحل العمرية الأولى للإنسان، حيث عقله لم ينضج بعد، وخبراته مازالت ضعيفة، وإرادته رخوة لا تستطيع أن تقوى على مواجهة العقبات والصعاب.
فالقليل من الناس بوجه عام للأسف من يستطيع أن يستثمر فراغه، ويملأه حركة ونفعا لذاته، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفراغ قد يكون نعمة وقد يكون نقمة، وأن معظم الناس يغفلون عن رؤية ما في الفراغ من فوائد وإمكانات مهدرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ».
ووحده الإنسان العاقل حين يشعر بأن بوادر هذه الحالة بدأت تتسرب إليه، فإنه سرعان ما يحاول أن يملأ نفسه وقلبه وعقله ووقته بما يطرد عنه ذلك الحزن والضجر والملل، كأن ينشغل بعمل لا يحتاج إلى كثير من التركيز، وأن يكثر من اللجوء إلى ذكر الله أيضا، والاستعاذة به من حديث النفس ووساوس الشيطان، والمحافظة على الوضوء، ولزوم الاستغفار، ودوام التسبيح، وبذل الخير للناس وقضاء حوائجهم.
فإن ذلك مما يطرد الشيطان، ويشرح الصدر، ويعافي النفس، ويطمئن القلب، ويجدد النشاط، وفوق ذلك يملأ الفراغ بالصالح من الأعمال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
فإن الفراغ يصيب القلب بأمراض وعلل هي أشد فتكا بالإنسان من أمراض البدن، والبرء منها يكون عسيرا وبعيد المنال!