الإحساس بالجمال والتعبير عنه، لهما علاقة وثيقة إلى حد كبير بالتمدن والرقي وأمارة على بلوغ النضج الإنساني، إذ هما تعبير عن الحرية التي تميز بها الإنسان في تجسيد الضمير، يسهم في تجميل الحياة، والتخفيف من وطأتها، فمن يملك قدرا من الحس الجمالي - في الغالب- فهو يبتعد أو يقترب من عنصري الخير والشر بحسب دنوه من الجمال أو بعده، إذ كل الخير يقطن بجوهره جمالا فياضا، كما أن الحس الجمالي ينظم الفكر أيضا، ويغذي الشعور، ويهذب الأخلاق ويرقى بالسلوك إلى الحد الذي يغمر الحواس ويذهل العقل.
بخلاف انه يرتبط ارتباطا وثيقا بالإيمان بجمال من خلق الحياة، ونظم الكون، وأبدع الطبيعة، وأسبغ عليهم كساء الجمال، فالجمال من صفاته سبحانه، وهو ما يدلنا عليه ويعرفنا به، ففي عدد من آياته تعالى المبثوثة سواء المكتوبة أو المنظورة (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون)، والإحساس بالجمال يبدأ طريقه من داخل الإنسان نفسه، في التأمل في فرادته، وجمال صنعه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).
كما يحظى الجمال أكثر من غيره من القيم بقدر فائض من الوفرة والكثرة، والغموض، معا، هو موجود بعدد من نجح في خوض تجربة جمالية عمادها الإحساس به، وتذوقه، واكتشافه وتأمله.
لذلك أصبحنا نحن أكثر اشتياقا للجمال، وإحساسنا به صار أكثر رهافة وعمقا، بعد خوضنا لعدد كبير من المواقف الحياتية بكل تفاصيلها والتي هي عبارة عن تجارب عديدة متراكمة، منها السلبي والإيجابي، وبعد وصولنا لمرحلة متقدمة من إدراك الأفكار المتعلقة بالكون والحياة والإنسان.
وعلى الرغم من أن الله سبحانه قد خلق للناس نزعة فطرية لملاحظة الجمال وتمييزه، فإن المعنى الجمالي لا تتذوقه إلا النفس الحرة ولا يتلذذ به إلا ذو العقل الصافي، والإحساس بهذا النوع يقتصر على من يتمتع بقدر وافر من عناصر مجتمعة تتحسس الجمال: كرهافة شعور، وعمق إدراك، واتساع أفق، يفتقدها إلى حد كبير كثيف الحس، سطحي النظر، محدود الرأي، فلا يلحظ الجمال قلب متذبذب الشعور، ضعيف الإدراك، غليظ الحس، أحادي الفكرة، لا يعبأ بأكثر المصادر الإنسانية خصوبة وثراء، كالخيال والإلهام والحب، ولعل السبب في ذلك يعود على أن الجمال يتركب من جمال معنى وقيمة.
لذلك دائما ما تجد سامي الروح المتذوق لملكة جمال المعنى يتسامى فوق حدود الشكل، فهو يحس بالجمال الكامن في الجوهر، بل يستمتع ويتلذذ به، ويتصف بصفاته، يقول شكسبير: «الجمال إحساس عقلي وشعور وجداني».
كما أنه يعتبر أحد أنواع التأمل الذي ينشد المتعة الروحية دون أن تخالطها مصلحة أو تعكر صفوها شهوة، يقف المتأمل من خلالها مشدودا أمام سحر الفكرة أو جاذبية الشعور التي امتلكته في لحظته، ونقلته إلى تجربته الخاصة، وذكرياته الجميلة، تأمل يصنع بداخله بهجة كبيرة وسعادة راقية ومتعة عظيمة.
ولا ننسى أيضا أن الإحساس بالجمال لا يشبه تلذذ الحواس المصحوب بالأنانية والرغبة بالتملك، والمختوم بالإشباع أبدا.