يقال: إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وعممت تلك العبارة لتصبح واحدة من أهم العبارات وأشهرها في عصرنا هذا، إلا أننا نرى أن هناك أشخاصا كثر للأسف يكونون على عكس ذلك تماما، أي تجدهم يقولونها وهم متوجسون خائفون من إغضاب الآخرين ممن اختلفوا معهم في الرأي، أو يقولونها وهم يضمرون بتعمد وإصرار عكسها في نفوسهم، أو أن يقولها قائل لكبح جماح حالة من الغضب والتوتر يراها بين متحاورين.
فنعم، لقد أصبحت تلك العبارة من أشهر العبارات كما أصبحت أيضا هي السمة السائدة على مستويات عدة بين الناس، أفراد الأسرة والأصدقاء والمعارف والأصحاب....إلخ، لكن في ثقافتنا نحن يتحول اختلاف الرأي إلى عراك كلامي مشحون بالعصبية وسرعة الانفعال الذي يقود إلى الإحباط والخيبة والفشل، ذلك ولأن الأغلب أصبح يمارس نوعا من الدناءة الحوارية، ليصبحوا مجرد قوافل ردود وقذف على كل ما يتحرك لمجرد خلاف في الرأي، فتجدهم يتعدون على المنطق السليم، ويبتعدون عن الحوار بمفهومه ومضمونه.
هذا بخلاف التهجم والحط من وجهات نظر الآخرين وتسفيه أقوالهم وجرح مشاعرهم وخدش اعتبارهم، وكأننا نريد أن نسحق الجميع حتى لا يبقى غير رأينا الوحيد، فبمجرد ما ان تختلف مع أحدهم في الرأي تجد أن الخلاف اتخذ شكلا آخر ومنحنى آخر ابتعد عن الموضوعية إلى الشخصنة، فلم يعد خلاف واختلاف بين رأي ورأي، بل أصبح خلافا واختلافا بين شخص وشخص ويتحول الأمر إلى محاول إقصاء الآخر عن طريق إهانته وازدرائه، بل يصل الأمر أحيانا إلى حد القطيعة والكراهية والحقد، لذلك عبارة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية» هي من أكبر الأكاذيب التي نعيشها ونخدع بها أنفسنا، بينما في الحقيقة والواقع نحن نفسد كل القضايا والنقاشات بالصراع والتجني وعدم تقبل رأي الآخرين، بالرغم من ان الاختلاف بالرأي موجود منذ نشأة الخلق وهو سنة كونية وطبيعة بشرية، حيث لا يمكن جمع الناس على كلمة واحدة أو رأي واحد او نقاش واحد، فلكل منا وجهة نظر أو رأي خاص به، قد يتطابق ويتفق مع الآخرين، أو قد يختلف معهم، بغض النظر عن صحة هذا الرأي أو عدم صحته، فهو بالأخير يرجع لقناعات شخصية تتمركز في فكر وعقل كل شخص منا.
لذلك يعتبر هو من الأمور الطبيعية بين البشر، ويحدث حتى داخل البيت الواحد، ومن السنن التي أرادها الله في كونه لخير البشرية لا لشقائها، قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس، ذلك لأن العقول كالمصابيح إذا اجتمعت ازداد النور ووضح السبيل ولأن لكل عقل نوعا من التفكير وبعدا خاصا، مما يجعل الفرد يستفيد من تلك الآراء والنقاشات التي تدعم رأيه وتكون دافعا له للاعتداد برأيه وعدم الحياد عنه، أو قد تكون متضاربة ومختلفة مع رأيه ومخالفة لوجهة نظره، وفي هذه الحالة يستفيد هو أيضا من تلك الآراء في تصحيح بعض آرائه وأفكاره الخاطئة إذا كانت آراء الآخرين وأفكارهم أشمل وأعمق وأدق.
فما يجب علينا أن نتعلمه حقا ونتربى ونركز عليه هو ألا يتحول اختلافنا إلى خلاف، وأن نتعلم أيضا أن ننشر ثقافة الحوار بأسلوب راق ونروض فكرنا وأنفسنا عليها كي نتقبلها عن رضا وقناعة وإيمان، بعيدا عن الإهانة والازدراء، والتزام الفرد بهذه الأسس والقواعد لكفيل بارتقائه في حواراته مع الآخرين، وكفيل بتغيير نظرته لنفسه ونظرة مجتمعه له، وليكن قدوتنا في ذلك رسولنا الأعظم الذي خاطبه ربه قائلا: «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك». وكيف استطاع بحلمه وعلمه وسمو أخلاقه أن ينتصر في حواراته مع المشركين ويقنعهم برسالته السمحاء، وذلك عن طريق الحوار العقلاني السليم كما علمه ربه «وجادلهم بالتي هي أحسن» فكانت نتيجة ذلك الحوار الذي استمر لسنوات عديدة إشراق نور الإسلام على الأمة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهو أمي ولكن بفضل أخلاقه علم جميع المتعلمين، وأرسى سفينة رسالته إلى شاطئ تسوده السماحة في التعامل وتقبل الرأي والرأي الآخر.