عليك ألا تنجرف دائما وراء المظاهر التي غالبا ما تكون خادعة ومزيفة، وتكتفي بها عند الحكم على الأشخاص وتقييمهم، فكثيرا ما ننخدع ببريق وجمال الأشياء من حولنا، فنلهث وراءها، ونتطلع إلى الحصول عليها، معتقدين أنها من النفائس والدرر، وبمجرد الاقتراب منها نجدها لا شيء! فيصدمنا زيفها وتصعقنا ألوانها الباهتة، ونتمنى حينها لو أننا اكتفينا بمشاهدتها عن بعد.
ولأننا في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، زمن صار من الصعب جدا فيه التمييز بين الصالح والطالح، لذلك تنبهر انت في أحايين كثيرة بأناس غير أهل للانبهار أو الإعجاب أو مجرد النظر إليهم أصلا، حيث يبهرنا بريق حديثهم، وزيف حضورهم، وتعدد ثقافاتهم، وجمال مظهرهم، ونتصور خطأ بأنهم يعانقون الكمال والمثالية، ولا عيوب ولا أخطاء لهم، ولا مشاكل تتخلل حياتهم، أي وكأنهم ملائكة أطهار أخيار، وليسوا بشرا يصيبون ويخطئون، ولهم مثالب ومساوئ، وغير منزهين أو معصومين.
فلو اقتربنا من أحدهم قد نفاجأ بأن جمال مظهره خلفه قبح جوهر، وأن حلاوة كلماته يكمن بين حروفها سم ثعبان، وأنه ممن يقولون ما لا يفعلون، وممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم! وأنهم ممن يقابلون الإحسان بالإساءة، والحب والإخلاص والطيبة والخير بالخبث والشر! قال تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون) [المنافقون:4]. وقال أيضا: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) [البقرة: 204-205].
فالجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والفكر والروح، وليس جمال الجسد وحسن الهندام وبهاء الشكل، فكم من وجوه بيضاء ناصعة تعلو قلوبا أشد سوادا وظلمة من الليل! وكم من ألسن تجيد هندسة الكلام وحياكة العبارات الساحرة الرائعة التي تسترق الآذان وتطرب لها الأسماع، تكمن وراءها نوايا خبيثة وأخلاق فاسدة وضمائر وقلوب وذمم خربة إن لم تكن ميتة!
لذلك علينا أن نحتاط ونحكم عقولنا قبل مشاعرنا، ونهتم بجوهر ومخبر الإنسان لا مظهره، حتى لا نصدم صدمات قوية لها بالغ الأثر على حالتنا النفسية والعصبية والجسدية، ولكي لا تؤثر تلك الصدمات سلبا على علاقتنا بالآخرين ونظرتنا للحياة وللبشر بشكل عام.
ولنعلم أيضا أن الحياة كلها تجارب وخبرات، وليس معنى تعرضنا لصدمات بسبب سوء اختيارنا وتقييمنا لمن نحب ونصادق أن البشر جميعهم هكذا، فالدنيا مثلما تحفل بالطالحين تحفل أيضا بالصالحين الأخيار ذوي الدين والأخلاق الحميدة والمبادئ السامية، وكما يقولون: «الصدمة التي لا تقتل تقوي»، فغالبا ما يخرج الشخص الذي يتعرض لصدمة من هذا النوع، لديه خبرة عميقة، تجعله أكثر قدرة على فهم وتقييم الناس بعد ذلك، مما يساعده على التمييز بين البشر وحسن الاختيار على أسس سليمة، لأن التجربة التي مر بها أصقلت فكره وزادته نضجا ووعيا رغم مرارتها وقسوتها.