من علامات المداهنة والنفاق إفشاء الأسرار، إذ إنه يدخل في خيانة الأمانة، عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». فالأسرار من الأمانات والعهود التي يجب الحفاظ عليها، ويجب التغليظ على من يفشونها، كونهم أشخاصا يخونون الأمانة، وينقضون العهد.
كما تتفاوت تلك الأسرار فيما بينها من حيث التغليظ في إفشائها، إذ منها ما يكون ضرره عاما وعظيما، ومنها ما هو دون ذلك من مثل ما يكون ضرره خاصا، إلا أن كلها في النهاية تشترك في كونها خيانة للأمانة وإخلافا للعهد، قال تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا).
فإذا كان الحفاظ على السر واجبا فإن إفشاء السر حرام، فحين أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وحفصة بحديث وائتمنهما عليه، فأظهرتا سره صلى الله عليه وسلم، فعاتبهما الله تعالى على ذلك فقال: (وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير)، ثم قال تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير).
فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه شهرا من أجل الحديث الذي أفشته حفصة لعائشة، قال ابن حجر، رحمه الله، عن هذا الحديث «وفيه المعاقبة على إفشاء السر بما يليق بمن أفشاه».
ونجد في السنة النبوية شدة الترهيب من الاطلاع على أسرار الغير وكذلك الترهيب من نشر ما لا ينبغي نشره من الأسرار، فمن ذلك: التغليظ على من أراد الاطلاع على عورات الآخرين: ففي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
كما هناك وعيد في حق من تسمع لأسرار غيره أيضا، فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة»، والآنك هو الرصاص المذاب.
وليس من شرط الأمانة أن يخبر المتكلم السامع بأن هذا الكلام سر فلا تخبر به أحدا، بل يكفي أن تدل القرينة على ذلك كما لو أخذه بعيدا عن الناس ليحدثه، أو جعل يحدثه وهو يتلفت خوفا من أن يسمع الناس حديثه، وقد روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة».
وأسرار البيوت لا ينبغي أن تفشى، وقد كان العقلاء وأهل الدين يوصون صاحب السر بعدم إفشائه، فعن ثابت عن أنس قال: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، قال أنس: والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت.