يقال: «الزهد ليس بتحريم الحلال، ولا بترك الطيبات، بل هو تجرد القلب والروح من حظوظ النفس»، والزهد يحمل معنى فسيحا، كالشجر الكسيح، لما له من أنواع مختلفة متعددة، هو عبارة عن مساحة كبيرة ترينا الأشياء بصورة مغايرة أحيانا، صورة تجعلنا نستصغرها في أعيننا، كي لا نشغل بالنا بها، لأننا في الحقيقة نحن في غنى عنها، لذلك لو فكرنا حقا بعمق بها، سنزهدها وستطيب خواطرنا منها، بدل التلطي وراءها وتحريها والتلهف بشغف عليها.
وكما ذكر لنا الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: زهد العوام وهو ترك الحرام، وزهد الخواص وهو ترك الفضول من الحلال، وزهد العارفين وهو ترك كل ما يشغل عن الله تبارك وتعالى.
أي هو ان نستغني عن كل ما يشغلنا ويلهينا وينسينا التقرب إلى الله سبحانه وتعالى اكثر، لنتحلى بالقبول الدائم والإيمان بصورة اكبر، كي نستطيع التحكم في زمام امورنا، ولا نلهث فقط خلف مظاهرنا وزينة ظواهرنا، وكي نصبح وسطيين معتدلين، أي «لا إفراط ولا تفريط»!
فهناك الكثير لا يستحق ابدا ان نغوص في اعماقه وننشغل به، وكأن الحياة ليس بها شيئا آخر يستحق غيره، ولكن هذا لا يعني ايضا ان نزهد انفسنا، ونبخس بحق ذواتنا ونبخل على ارواحنا ونحرمها، فنتهاون وندوس على راحتنا.
بل ان نؤمن بها، وبوجودنا، لا ان نهملها ونترك الأخذ بأسباب تقاعسها، وننقي قلوبنا من شوائب الدنيا وخرابها، لا ان نتشبث بها ونتعلق بأشياء أخرى لا معنى لها، ولا مانع بأن نتطلع للحياة إلى ما ورائها ولكن ببساطة، اي بعيدا كل البعد عن التكلف والمبالغة.
وان نزهد فيما بين أيادي غيرنا، ولا ننظر بحسرة له، ونجعل كل تركيزنا منصبا عليهم، وكأننا نتمنى زواله منهم، وان نفكر بمنظور أكبر، ومن زاوية أوسع، لنغذي رغبتنا بالرضا، لتزداد من تلقاء نفسها إيجابيتنا، ولنتكيف مع كل ما رزقنا الله سبحانه وتعالى به وكتبه لنا.
ونسلم جميع امورنا إليه خاصة في الوقت الذي تذمرنا فيه كثيرا من سوء حظنا، بعيدا عن حيرتنا وخوفنا، وبعيدا من شدة توترنا.
فالله سبحانه لم ينعم علينا بالطيبات وقسمها مثلما يريد على كل واحد منا، ليحرمنا منها، ولم يهيء المتع المختلفة التي حللها لنا، لنستمتع بها ومن ثم يعاقبنا، ولم يخلقنا ليشقينا او ينكلنا، وإنما خلقنا ليختبرنا في شتى ظروفنا، السعيدة منها قبل الحزينة، وكي يمتحن صبرنا ويرى كيف يكون تصرفنا.
فما سميت بالرقائق، إلا لأنها ترقق قلوبنا وتزيد من خشيتنا.