تابعت بشغف شديد غير معتاد حلقات برنامج «الصندوق الأسود» عندما كان الضيف من نوعية خاصة جدا بل واستثنائية، ليس لدرجته العلمية الرفيعة، ولا لتجاربه الحياتية الثرية سياسية كانت أو اجتماعية أو علمية، ولا لعرضه المسرحي الفخم أثناء حديثه وكأنه انتوني هوبكنز في لحظات التجلي، ولا لتحكمه بمخارج الحروف وانتقائه لمفردات الكلام بدقة، ولكن لكون د.عبدالله النفيسي «يقول ما لا يقال، ويوجع أحيانا في القول»، وهو ممن يتمتع بمناعة شخصية وأسرية عريقة تجعله في حصانة أبدية، وينطبق عليه القول «تسمع منه ولا تخشى عليه».
الدكتور النفيسي شخصية جدلية لدى الكثيرين، يغوص في الأعماق مع المتبحرين، ويسبح على الشاطئ ملاطفا المبتدئين، وهو بين هذا وذاك ايديولوجي الطرح ذو رؤية خاصة وثاقبة أحيانا، استمتعت منبهرا وهو يتحدث عن طفولته وصباه في أكاديمية فيكتوريا بالقاهرة، وتدرجه العلمي حتى نيله درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج العريقة، وتنقلت معه في محطات حياته الثرية ـ له العمر المديد إن شاء الله ـ ومما استوقفني من حديثه الشائق رأيه في مجلس الأمة المنتخب عام 1985وحله في 3 يوليو 1986، وشعوره بالأسى بعد طول نظر وتبصر لروح التحدي التي صبغت بداية مجلس الأمة في ذلك الوقت، وسعي ذلك المجلس إلى «إسقاط هيبة الحكومة» بحسب ما ذكر، من خلال استجوابات متتالية، في فترة زمنية بالغة الخطورة شهدت أيامها حربا هوجاء طاحنة بين الجارين العراقي والإيراني، مشبها دور المجلس في تلك الأيام بالقرحة المعدية التي تؤذي صاحبها.
واليوم ليس بالأمس، ولكن يبدو أن «روح التحدي» لاتزال قائمة هي ذاتها مع تغير الأشخاص، وتبدل القضايا، بداية مجلس 2020 شبيهة بسابقه 1985، اندفاعة غير مدروسة، عبرت عنها مواقف سياسية متشجنة، واستجوابات متتالية، من شأنها أن ترخي بظلال قاتمة غير محببة للجميع على المشهد السياسي العام، وهو ما يشعرنا جميعا بالأسى وما لا نأمله، هذا كله والعالم يشهد لحظات قاسية، وهو يجاهد حربا اقتصادية كونية أوقفت الحرث وأهلكت الكثير من الأخضر، ونرجو قرب نهايتها حتى لا تأخذ اليابس في طريقها، ولا يبقى لنا حينها سوى الحسرة والتفجع على ما فات.
أهلا بروح التحدي الإيجابية لأجل مزيد من الشفافية، ومعالجة عاجلة لأوجه الخلل في كثير من الملفات، ووضع الحلول المنهجية للقضايا الملحة شعبية كانت أو نخبوية في فضاء من التكامل والطرح الرزين.
[email protected]