شغل العالم بحثا عن أكسير الحياة، ذلك العلاج الذي يهبك الشباب الأبدي المخلد، عنفوان الغرائز وجموحها، وطاقة إبداعية خلاقة، وحيوية متجددة، والحياة تعرض كل يوم صنوف بضاعتها، للراغبين والطامحين لعليائها، ولا كهولة تترقب مضي الأيام الجميلة، لتعاقبك بمرير الذكريات، ولا فناء دنيويا يعقبه عتاب وحساب، وجنة ونار خالدين على طرفي نقيض.
الشعب اللبناني من جنوبه حتى أقصى مدينة في الشمال خاض تجارب الحياة، و«لف العالم» منذ القرن الثامن عشر- أو ربما قبله - مكتشفا، ومستثمرا، ومعلما، لم تزجره رهبة خوض التجارب، وغموض استكشاف الجديد، ولم تفت في عضده خيبات الرحالة والمغتربين في كل أصقاع المعمورة، فالنموذج الآخر حاضر يمتد زخمه من نجاحه، دافعا عشاق الحياة إلى التحليق عاليا، فلا سقف لأبناء هذا البلد سوى السماء، وعندما تلتقي يوما أحد تلك الطيور المهاجرة، وقد أخذته الأيام في رحلتها الطويلة، يحدثك عن تجربته في جامايكا، وابن عمه في البرازيل، وصديق طفولته الذي أصبح ذا شأن رفيع في بوركينا فاسو، وتسأل نفسك عن السر وراء ذاك الشغف، فلا تجد من إجابة سوى أنه من لبنان واهب الحياة.
لبنان.. كان وسيبقى ذلك الفسيفساء بديع التناسق، جامع الأضداد، الأكثر تحررا وتشددا بذات البقعة المكانية، آراء متناحرة حد امتشاق الحسام، بلد الرؤى والآراء الأيديولوجية، والإستراتيجيات الممنهجة، وطن المدارس الحصينة في مختلف المجالات، اختطفته فجأة حرب أهلية شعواء لسنين طويلة سوداء لتحدث الصدمة، فتعيده مراحل زمنية تجاوزها منذ مئات السنين، ورغم بشاعة ضراوتها، وهمجية غلوائها، لكنها لم تستطع اختطاف «بلد العيد» من قدره، ليخرج من بين الركام كطائر الفينيق.. لأنه لبنان أكسير الحياة.
بالأمس.. حلت صدمة الرعب الثانية في بيروت السلام، في محاولة مستميتة جديدة – ولن تكون الأخيرة – لجر بلد يقدم التجانس أنموذجا مستقبليا متكاملا لشعوب كثيرة لاتزال رهينة المعتقد ونوع الجنس والطائفة، إلى براثن التمزق والتطاحن والتفتت، عاد الشؤم «غرابا» فرد جناحيه السوداوين على مرفأ بيروت، فلم يبق فيه حجر على حجر، ليدخل «الشعب العنيد» في معترك اختبار قاس، مصحوبا بظروف اقتصادية طاحنة، وتجاذبات سياسية إقليمية ودولية بالغة الحساسية، لتزيد الوضع سوءا والمشهد تعقيدا على «الشاب الوسيم» جامع المتناقضات، المغرم بفك طلاسم المتشابكات.
الجمع الغفير يرقب المشهد.. هناك من يقول: «لعله يفشل هذه المرة، فيشيخ فجأة»، وآخر على النقيض يشحذ قلمه ليكتب للتاريخ عن «وطن النجوم» الخالد الذي لا تهزمه الأيام.. وراجع لبنان.
[email protected]