منذ أن كنا صغارا، في فصول المدرسة، ونشأة الأبوين، ولُقيا الأصدقاء في الشارع، والقدس درسنا، وتربيتنا، وكبرنا وحديثنا اليومي لا يخلو من ذكر فلسطين، والنكبة، والمهجرين، وغوغائية المستوطنين، ووحشية المحتلين، وتضحيات الشهداء، والعمليات الفدائية، وانتصارنا هناك وانكسارنا هناك، وتحرير أولى القبلتين حلمنا الكبير.
استنزفنا دولا وأفرادا، بسياسات الفرقة والتشرذم، بالفتن المتلاحقة، بتكالب الأمم، بالحروب الأيديولوجية الممنهجة، فما أن تنطفئ نار هنا، حتى تشتعل أخرى في جزء آخر هناك، إنهاكا وتمزيقا حد التفتيت للوطن المتحد لغة ودينا وعادات شرقية سامية، نجحت الخطة الكبرى بالقوة القاهرة والمال المجني جشعا زيتها ومحركها، فوصلنا حد الخصام والتشرذم، فسار كل منّا على هواه، ومضت السنين حزينة تجرّ خيبتنا خلفها.
الحقبة التاريخية المزرية التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية بعدما غربت شمسها منذ ما يزيد على 100 عام، بانكساراتها الموجعة المتتالية، لن تدفعنا إلى التنازل عن أرضنا التي أخذت بسطوة القوة الجبرية، والمنطق الأصم للآلة العسكرية، وقعت حكومات العرب والمسلمين فرادى أو مجتمعين أو لم توقع، فذلك شأنها وسياساتها التي تخضع لمعايير آنية، وتتبدّل وفق موازين القوى العالمية، وتبقى للشعوب كلمتها المسموعة دوما، وهي الكلمة العليا، فلا تغرروا بالموهومين، والمتقلبين، واحتفلوا لبعض الوقت بنصركم المؤقت مع صحبكم ومنطقهم الأعوج الأوحد، فهم الذين أوجدوكم شوكة في خاصرة الأمة الإسلامية ولهم عليكم حق الدعوة، اختلقتم مفردة «التطبيع» المتطابقة مع سياساتكم المتناقضة، كوعودكم التي لا تعرف الوفاء أبدا، وكعهودكم المنقوضة قبل أن يجف حبرها، وأخذتم بالترويج لها بآلتكم الإعلامية العالمية، لم تعتذروا عن مجازر فلسطين، ولم تطلبوا العفو عن بطش القوي بالضعيف بسفك دمه، والاجتراء على حرماته ومحرماته وتجريده من مسكنه، ولم تعترفوا بإعدام أسرى الحروب، وتلك من المبادئ الأساسية للدول المحترمة والنفس الإنسانية، ولم تنسحبوا من أرضنا المحتلة، والمتغطرس في غلوائه زنيم، كل ما في الأمر أنكم انتقلتم على أشلاء الجسد المثخن بالجراح إلى مرحلة متقدمة أكثر، ومتجبرة أكبر، ولكم من أخلاقكم المتوارثة ما يبرر أفعالكم، وإن كنت قويا كفاية، ولا تعبأ سوى بمنطق القوة الغاشمة، لك أن تعربد كيفما شئت، ما لم تجد من يعيد إليك رشدك ناصحا، أو نظيراً لك في العتاد والقوة يقتلعك من جذورك الواهنة، ويعيدك إلى موطنك الأصل حيث كنت.
افرحوا ولكن لا تبتهجوا.. فبحسب شواهد الأزمنة، وتبعثر الكلمة، وتفرق الصفوف، لن يكون بعمرنا المنقضي شقاء وعبثاً، ولا بأيامنا البائسة رصد بأقماركم منذ شروق الشمس حتى مغيبها من عودة قريبة إلى الأقصى، لكننا سنعود، وتلك حقيقة تذكرنا بها إشراقة شمس الصباح كل يوم، الأرض المغتصبة تلفظ محتلها، هكذا يقول التاريخ في صفحته الأولى، قبل أن يعاد تنقيحها وطباعتها وفق أهوائكم، لتضعوا في صدرها مفردة «التطبيع» المختلقة بما يتماشى وفق سياساتكم المتناقضة، ووعودكم التي لا تعرف الوفاء، وعهودكم المنقوضة دوما قبل أن يجف حبرها.
الدرس الأول حفظ محفورا في القلب «القدس هوية المسلمين»، ووصية الأبوين كتبت في أعلاها كلمة فلسطين، وإن طال الانتظار أو كثر الصامتون، سنعود يوما إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين فاتحين.
[email protected]