تاريخ مصطلح «الدولة المدنية» كفكرة أو كنظرية اجتماعية وسياسية يرجع إلى الفلسفة اليونانية والتي سعت إلى وضع أفكار خاصة، لتكون مضادة للسلطة الحاكمة الجائرة في اليونان آن ذاك، ولكنها كتطبيق عملي أجزم بأنها ابتدأت منذ الوثيقة المدنية، التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية تأسيس الدولة في المدينة المنورة، والتي كانت تحفظ لكل الناس حقوقهم رغم اختلاف دياناتهم المسلمين والـــيهود والنصارى والمشركين.
وفي السياق أيضا دولة أبي بكر الصديق التي كانت ترجمة وتأصيلا وامتدادا طبيعيا لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وللدولة المدنية وخاصة عندما نستعرض كيفية نشوئها من حيث اختيار الحاكم والأسس التي أرساها، ودعا إليها أبوبكر في مناظراته السياسية في سقيفة بني ساعدة، ومن حيث كلمته الشهيرة عند انتخابه، والتي أجتزئ منها «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، «الصدق أمانة والكذب خيانة»، «إن العهد الذي بيني وبينكم كتاب الله وسنة رسوله».
***
ولو قرأنا وحللنا عملية الاختيار (البيعة)، وعبارات كلمة أبي بكر الصديق واستحضرنا بذات الوقت دولة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقب العهد الراشدي من بعده نستطيع الخروج بما يلي:
٭ أولا: انتخاب الحاكم والنخبة الحاكمة تم من قبل المحكومين (الشعب) مباشرة أو من قبل من يمثلهم، كما حدث في تولية عثمان بن عفان (أهل الحل والعقد)، وهو «البرلمان» بالمصطلح الحديث والمعاصر.
٭ ثانيا: العلاقة بين الحاكم والمحكوم (السلطة والشعب) بنيت على أسس المحاسبة التي تتضمن الثواب والعقاب (التثبيت والعزل) كقول أبي بكر: «فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»، وكذلك ضمان حرية التعبير والرأي بحيث يستطيع كل فرد من الشعب أو من ينوب عنه التعبير عن قناعاته ورأيه حول السلطة وبيان موقفه منها.
٭ ثالثا: تعامل السلطة مع الشعب يكون على أساس الصدق والأمانة، سواء في اتخاذ القرارات والمواقف، أو إدارة الثروات ومجالات الصرف، وهذا ما يسمـــى بالمصطلح الحديث بـ «الشـفافية».
٭ رابعا: مرجعیة العمل السياسي والحكم وإدارة «الدولة المدنية» تتمثل بوجود دستور حاضن وضامن يتضمن مبادئ عامة وقوانين تنظم التعاملات والمعاملات بين جميع الأطراف، وتحدد شكل الدولة، وتبين كيفية إدارة المؤسسات وتوزيع الواجبات والحقوق.
كقول أبي بكر: العهد الذي بيني وبينكم كتاب الله وسنة رسوله وهذا هو «الدستور» الذي حدده أبو بكر لدولته وهو الأمر الذي لا غنى لأي دوله عنه.
ونستنتج من شرح العبارات والمفاهيم الواردة في كلمة أبي بكر الصديق أن الدولة التي أرادها هي بحق دولة مدنية، قائمة على مبادئ وأسس متقدمة.
وعلى خطى دولة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بنيت وفق وثيقة المدينة التي جمعت كل المكونات كما أسلفت، مسلمين ويهود ونصارى ومشركين.
***
ثم لاحقا وبشكل متأخر وصلت فكرة «الدولة المدنية» إلى بعض الدول الأوروبية والتي اعتمد التطبيق فيها، على نظام سياسي جديد، تم بموجبه تشكيل أحزاب سياسية، تهدف إلى تمثيل الشعب، والمطالبة بحقوقه، والتأكيد على فكرة عدم التفرقة بين فئات الشعب المختلفة، وكان هذا الأمر فعالا في القضاء على ظاهرة التعصب وتحكم رجال الكنيسة بالحكم في أوروبا حينها.
***
بالمناسبة، ما جرى في السقيفة التي أفرزت انتخاب رئيس الدولة كان هو الشرارة الأولى لانطلاق فكرة الملكية الدستورية وخاصة المحور النقاشي: «منا أمير ومنكم وزير».
[email protected]
[email protected]