توقفت الشابة عن المسير فجأة في أحد شوارع منطقة السالمية التجارية ورفعت يديها عن عربة الأطفال التي كانت تدفعها والتفتت بسرعة لابنها ذي السنوات الخمس الذي يمشي بجانبها وقد تمسك بقوة بطرف جاكيتها، حدثته ببعض الكلمات ثم قامت بإحكام شد الجاكيت الشتوي عليه خوفا عليه من البرد وبحركة هادئة حنونة أدخلت خصلات شعره داخل قبعة الجاكيت، استرعى انتباهي ابتسامة واسعة رسمت نفسها على وجه الطفل وقد أغمض عينيه وكأنه يستشعر بأعماقه لمسات أمه الرقيقة.
مشهد لم يبارح ذاكرتي لأيام طويلة، ابتسامة الطفل المنتشية بلمسات الأم اللينة اللطيفة، واستدعى معه مشاهد وأحداثا وقصصا لا حصر لها وليفرض عليّ تساؤلا: لو أننا قلبنا الموضوع وكانت الأم هي في عمر متقدم وبحاجة لابنها أو ابنتها فهل سيعاملونها بالحنان واللطف الذي عرفوه منها؟
لسنوات قليلة وقبل أن نبتلى بالانفتاح الواسع والتطور التكنولوجي الحديث وبرامج حب الذات المبالغ بها ومنطق الحرية في الحياة والاختيارات والعيش بمنطق كول حتى في الأمور الدينية كان للوالدين قدر عال عند أبنائهم وكانت المجتمعات العربية جميعا ترفع من مكانة الوالدين واحترامهما أما الآن فاتسعت الفجوة بين الآباء والأبناء وبدأنا نسمع همهمات الشكوى والتذمر من الوالدين ونشاهد حالات من العقوق وأصبح من السهل على الشخص الرد بكلمتي شخباري أو وين عايشين إذا ذكر أحدهم والديه بالخير وأعطاهما مكانة متميزة في حديثه، وزادت حالات العزلة داخل الأسرة والتنافر بين أبنائها مع ضعف التواصل الأسري وطفحت مشاعر الغربة بوضوح.
صراع الأجيال أمر ليس بالغريب ولكن تظل الأسرة هي صمام الأمان للفرد والمجتمع، لذلك فالتفاهم الأسري لا يتطلب التعرف على التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال ولكنه يحتاج الى الحوار والمشاركة العقلية والوجدانية، إن الوالدين يحتاجان منك الى بعض الوقت فقط وللتواصل المباشر معهما وتغليف ذلك بالاهتمام والتقدير لحديثهما وعدم إظهار الملل أو التأفف لوجودك معهما كما انهما لا يحتاجان منك لأن تعطيهما دروسا في الحياة والتعامل فلقد مرا بتجارب عديدة أعطتهما حنكة وبعد نظر، إن والديك يحتاجان لأن تقدر التغيرات الجسدية التي يعانيان منها فخطواتهما أصبحت بطيئة متأنية ونظرهما ضعف وأصبح صدرهما ضيقا بعض الشيء فلم يعد أي حديث يعجبهما وإن سايراك في ذلك، كما ان علاقتك معهما لا تحتاج لأن تصحح لهما حديثهما فالتغافل مطلوب ومحبب لاستمرار المودة، كما ان حاجتهما للاستمتاع بالطبيعة أضحى أكثر بكثير من حاجتهما للتواجد داخل المجمعات التجارية، إن فن التعامل مع الوالدين في كبرهما يحتاج لأن يلقن للأبناء في وقت مبكر وأن يتعودوا على استخدام المفردات اللطيفة مع الابتسامة أثناء الحديث مع الوالدين وأن يبتعدوا عن النقاشات الحادة التي لا طائل من ورائها وأن يخففوا من أنانيتهم فالتذلل للوالدين أمر محبب دينيا، إن الحس الإنساني الحقيقي هو الذي سيحفظ الأسر العربية من التفكك الذي يسعى إليه أعداؤنا.
[email protected]