نعيش الحياة وتمضي بنا في دروبها ولا شيء يدوم على حاله، فنعرف الفرح والحزن ونتجرع مشاعر السعادة والألم ونتقلب من حال إلى أحوال لم نكن نتخيل في يوم أن نعيشها، وفي زمن النهضة البشرية والتكنولوجيا الهائلة تزايدت مشاعر حب الذات وارتفع منسوب الأنا في مقابل الجماعة حتى وإن كانوا أهلا أو أصحابا وأصبحت هناك إجابات جاهزة ومعلبة للدفاع عن قرارات الشخص أمام البقية وقد يكونون أعز البشر له ولكن الأنا تقدم نفسها بدرجات عليهم فتكاثرت مواقف هجر الوالدين والأهل، البيوت في الماضي كانت تزدحم بساكنيها، أما الآن فهناك بيوت موحشة باردة فالوالدان أو أحدهما يعيش منفردا لأن الأبناء لا يطيقون وجود الوالدين ويرغبون في الاستقلال بحياتهم وآخرون لا يتقبلون أي ملاحظة من الأهل والبعض يتنقلون طوال اليوم بسياراتهم من مكان الى آخر، ولكن طريق بيت الوالدين قد ضاعت بوصلته، وقد بلغ الجحود ببعضهم أنهم أصبحوا يرسمون طريق الفراق بدقة ودهاء وكأنهم يخوضون حربا مع الأعداء لا علاقة سامية مع والديهم وأهلهم.
مرارة الموت قاسية على أهل الميت وبالذات إن كان عزيزا، ولكن هناك ما هو أمر منه وأقسى، فما أصعب الفراق بين الأحياء إنه خيبة لقلوب أحبت وأعطت بصدق وتعيش على ذكرى أحباء لا يشاهدونهم إلا للحظات خاطفة وقد لا يرونهم بالمرة ولا يسمعون أصواتهم برغم أن الهواتف المحمولة أصبحت ملاصقة للإنسان طوال يومه، تغيب متعمد من الأبناء ولم يعد حنان الوالدين ذا معنى لهم وكأنه صورة قديمة بالية قد بهتت ألوانها وذاب قماشها، ويشجعهم على المضي في هذا الطريق المنحرف دينيا واجتماعيا أصدقاء السوء وأشباه المدربين والمعالجين، خسارة الأبناء أمر مفجع ومرير وسيظل جرحا ينزف في قلوب الوالدين ولن ينسى القلب ذكراهم أبدا فهم يسكنون داخله ولهيب الحنين لا تطفئه دموع العيون ومعه يتلاشى أي فرح قد يأتي بعده، وهذا سيدنا يعقوب ابيضت عيناه لشدة حزنه على يوسف وأخذ يبث شكواه إلى الله.
تغيرت النفوس وتبدلت وكما هي النزعة الاستهلاكية تلغي القديم عند شراء الجديد أصبحت العلاقات تلغي القديم عند جديد العلاقات، انقلبت الموازين فالوالدان والأهل يمكن شطبهم بجرة قلم للبحث عن إصدار جديد يتماشى مع تغير الحياة ونسوا أنهم يقدمون دروسا واقعية لأبنائهم وقديما قالوا كما تدين تدان.
ديننا الإسلامي وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسخا قيم احترام الوالدين وبرهما في حياتهما وبعد مماتهما، كما أكدا أهمية الأسرة في حياة الفرد، ولكننا نعيش في زمن غريب يهدم البناء الأسرى برعاية من المدافعين عن الحريات وأشباه المدربين وبحجج وأسانيد مزركشة وليستمر العرض دعمت الحرية الشخصية وضخمت وكأن الحياة الناجحة لن تستمر إلا بها وانساق الكثيرون وراء هذه الأفكار ولا عزاء للوالدين والأسرة، ولكن قمة العذاب أن تشتاق لقطعة منك ضاعت وتجتهد لتنساها لعلك تستطيع مواصلة الحياة وبمرور الوقت يموت حتى العتاب ولا يتبقى إلا الصبر الجميل وقلوب الوالدين تتضرع الى الله أن يهدي أحبابهم لهم قبل فوات الأوان.
[email protected]