بين فترة وأخرى نسمع بعض المنتسبين للعلم والثقافة يرددون القول التالي «ابعد عن الجوعان.. وحديث النعمة»، أي لا تضع الفقير بمنصب ما، ولا تعتمد عليه في مراكز مهمة بها الكثير من المغريات، لأنه ـ كما يعتقدون ـ جائع وقد يخرب كل شيء بسبب جوع نفسه المتوحشة!
وللأسف يردد هذا القول بعض الدكاترة، وبعض المفكرين المخضرمين وغيرهم، دون أن يحددوا مفهوم الجوع والفقر!
وفي الحقيقة أرى أن فهم هؤلاء لمفهوم الجوع هو فهم قاصر وغير عادل، وقولهم هذا به تجن على الفقير من ناحية أخرى، فقد صوروا الفقير على أنه لا أمانة له، وأن الاعتماد عليه به ضرر على المجتمع، وأنه ليس لديه أي رادع يردعه عن مغريات الحياة، وأن نفسه ضعيفة للغاية، وهذا ظلم.
ولو أنهم قالوا: «ابعد عن فقير النفس وإن كان يملك الملايين، لأن نفسه جوعانه، واقترب من غني النفس، وإن كان لا يملك أي دينار لأن نفسه شبعانة»، بهذه الحالة يكون رأيهم صائبا لحد كبير، أما طريقتهم التي يصورون بها (الفقير) فهي طريقة ظالمة، وتدل على ضحالة الفكر، فهم يصورون ـ مع كل أسف ـ الفقير بأنه ذو طمع وجشع، وأن تقلده للمناصب المرموقة ـ التي تحمل الكثير من المغريات ـ قد تجعله يهلك الحرث والنسل، وقد تجنوا على الفقير كثيرا!
وعلينا أن ندرك جيدا أن الغنى هو غنى النفس، فالفقير «غني النفس» هو خير من ألف غني من أغنياء المال «أصحاب النفوس الفقيرة»، وغني النفس هذا أينما كان أفلح وأصلح، فلا تظلموا الفقير في تفسيراتكم التي تنبع من «هوى» نفوسكم الظالمة، وتنضح من أفكاركم التي رسخ بها الكبر والغرور بشكل مريب.
ولعل حديث النبي الكريم يؤكد المعنى الذي أريد إيصاله، فقد قال ﷺ: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».
لذلك على هؤلاء أن يدركوا أن بعض مفاهيمهم غير دقيقة، والواقع يؤكد ذلك، فكم من فقير لا يملك شيئا من عرض الدنيا أتيحت له الكثير من الفرص لكي تتضخم حساباته لكنه ثبت، وثبت، وثبت، وصان الأمانة بكل إخلاص، وأدى عمله بكل تفانٍ، وكم من غني يملك أموالا طائلة أمضى عمره بالبحث عن الفرص كي يضخم حسابته ويزيد من منسوب خزائنه!، ولو تفكرنا في أبرز أوجه الفساد والسرقات والتجاوزات لوجدنا أن أيادي الفقراء وبطونهم «الجوعانة» ليس لها ذنب بها، لذلك اعدلوا في أقوالكم ومفاهيمكم حتى لا تقعوا في بشاعة الظلم.
وعلينا أن ندرك جيدا أن المعدن النقي سيبقى نقيا رغم قسوة الظروف المحيطة به ورغم التحديات، والمعدن الملوث سيبقى ملوثا رغم رخاء الحال الذي يحيط به.
«من السنة المطهرة»: مر رجل على رسول الله ﷺ فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا ـ والله ـ حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع.
قال: فسكت رسول الله ﷺ، ثم مر رجل، فقال ﷺ: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله ﷺ: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا».
hanialnbhan@