ذات مرة، دعاني أحد الفضلاء على عشاء، وهو رجل يصنّفه المجتمع بأنه «فقير»، فرأيت منه الكرم المتناهي، والحفاوة منقطعة النظير، والبشاشة البالغة، والنفس الطيبة، وكانت هذه الأخلاق سالفة الذكر تتوزع بشكل جميل وعادل على الضيوف جميعهم، بغنيّهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم!
وفي دعوة أخرى في يوم آخر، دعاني رجل آخر يصنفه المجتمع بأنه «غني»، فرأيت منه الإهمال التام، وقلة البشاشة، وغياب الكرم و«النفسية الشينة»!
فاستغربت من هذه المشاهد من نواح متعددة، وتساءلت: أليس من المفترض أن تكون سعة الرزق، ووفرة الراحة، وتوافر المال، أسبابا داعية وحاثة على كرم الضيافة، وسلامة الحفاوة وتميزها، وطيب «الملقى»!؟ فمال باب بعض الأغنياء يُظهرون خلاف ذلك؟!
وأيضا فكرت في حال ذاك الفقير، فرغم ضيق الحال، ورغم تفاقم الصعاب حوله، ورغم ضيق المكان وقسوة الزمان عليه، إلا أنه في غاية البشاشة عند استقبال الضيوف، وفي غاية الفرح والكرم!
إذن، هو تساؤل مستحق! لماذا كل هذا؟!
وبعد هذا التفكير، وبعد الوقوف مع النفس، توصلت إلى حقيقة -أعتقد صوابها- وهي أن «الكرم» وطيب النفس، وبشاشة الوجه، هي أشياء تنبع من جوف الإنسان، ولا علاقة لظروف الحياة بها، فهناك فقير فرحان ومسرور عند لقائه أي أحد رغم فقره المؤلم، وهناك غني حزين وتعيس عند لقائه أي أحد رغم غناه الطاغي.
وأنا هنا لا أقصد «الكرم» بمعناه المحدود المتمثل في «صحن» فقط!، بل أقصد «الكرم» بمعناه الواسع، وأبرز معانيه المقصودة «الملقى الطيب والبشاشة»، حيث قال الشاعر قديما:
بشاشة وجه المرء خير من القرى
فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك؟!
- إذن: هي أشياء تنبع من معدن الإنسان ولا علاقة لقسوة الظروف عليه، أو حنو الظروف عليه.
قبل الختام: هنيئاً للمعادن الطيبة من الفقراء والأغنياء، فالطيب يبقى طيبا مهما كان مركزه في الحياة، والرديء يبقى رديئا مهما كان مركزه أيضا، فهنيئا للفقير الذي انتصر على قسوة الزمن «فضحك صابراً»، وهنيئا للغني الذي انتصر على دناءة النفس فأكرم، وابتهج، وصنع أفضل الصنيع، و«ضحك شاكراً».
في الختام: قال ﷺ: «نعم المال الصالح للمرء الصالح».
ويروى حديث آخر ضعّفه البعض يقول فيه ﷺ: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين».
[email protected]