في أحد ممرات الطابق العلوي من المنزل الذي يجمع غرفة الأم والأب وغرف الأبناء، الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، كانت الأم ممدة على الأرض، تسمع صوتها وكأنه ينادي، أيقظ هذا الصوت ابنتها التي أتمت عامها الرابع عشر قبل شهرين من ذلك اليوم، خرجت من غرفتها تنظر، فإذا بأمها على الأرض تفترش سجادتها وثوبها الزهري، كان وجه أمها على غير العادة، وكأن نورا أطفئ من وجنتيها، أخذت تردد داخلها: «لماذا وجهك هكذا قلق ومتعب وكأنه مقبل على أمر جلل، كبرنا ونحن نراك بصحة وعافية تملأ قلبك قبل وجهك».
وهي تحدث نفسها أخذتها قدماها بخطوات لتصل آخر الممر حيث أمها، لم يوقفها سوى يد والدتها التي كانت تشير لها أن ارجعي من حيث أتيت، كان منظر الأم والهم يعلو تفاصيل وجهها سكينا غرست في قلب تلك الفتاة، رجعت مسرعة لئلا تزيد هم أمها هما، دقائق دخل عليها والدها يوصيها أن تطمئن على أخوتها الصغار وتبيت الليلة بقربهم، فهو خارج مع أمها إلى الطبيب وأن سيارة الإسعاف قد وصلت، كانت نبرة والدها القلقة المضطربة لا تبشر بخير، زادها هذا ربكة وجعلها تتمنى أن يكون كل ذلك كابوسا، وأنه في الصباح الباكر سينجلي كل شيء «تعب عارض ألم بأمي وستعود بعد قليل كما حدث بعد ولادتها بأخي الصغير قبل عامين».
بعد ساعة تقريبا تسلل النعاس لعيني الفتاة ودخلت في نوم عميق، أيقظها والدها الساعة الخامسة فجرا، حيث بدأت أشعة الشمس تخترق الستائر تنبئ عن دخول يوم جديد، أخذت تتفحص عيني والدها تستقي منه جوابا:.. أين أمي، لماذا لم تعد معك؟ لكن لسانها لم يجرؤ على السؤال، فمنظر والدها كان لا يبشر بخير، ظنت أن أمها مصابة بمرض وهذا يستدعي أن ترقد والدتها في المشفى لأيام، لم تكن قادرة على تخمين المرض الذي أصاب والدتها، أخذت الأفكار تطوف بها في وديان، تحلقت هي واثنان من أخوتها حول والدهم بعد أن أخذ بيدهم إلى إحدى الغرف، ساد الصمت لحظات، إلى أن خرجت الكلمات الحزينة المفجعة بصوت والدهم المتحشرج «إن والدتكم أمانة، وقد أخذ الله أمانته»، بعد سنوات.
«ما زال يحضرني - بدهشة - منظرك وأنت تشيرين بيدك يا أمي، حتى لا أشهد صورتك وأنت تفارقين الحياة، كيف بشخص في لحظاته الأخيرة وهو يفكر في مشاعر ابنه ويواريه عن الألم؟! كيف؟!
إنك وإن رحلت سريعا، فإن رصيد مواقفك الحنونة مازالت النبع الذي أنهل منه معاني الإحساس والرحمة والحب.
ومازال وجهك يا أبي ومواقفك التي تجلت فيها كل معاني القوة والصبر، ما زالت درسا يعلمني كيف أنهض بنفسي بعد الأزمات..».
اصنعوا رصيدا غنيا لأحبابكم فكلنا مفارق..