جلس في مقهاه المعتاد يحتسي فنجان القهوة الساخن، وقد انتشى بعبقها وأمامه دفتره المعهود، شخبط على صفحاته ببعض الكلمات، باحثا عن شرارة الفكرة، من بين العشوائيات التي ارتسمت على الورقة بلا تخطيط، ومع محاولاته التي باءت بالفشل - لحالة التشتت العابرة - سبح بنظره ليرى تحركات الناس من خلف الزجاج وكأنهم أشباح تسير بلا صوت ولا تأثير، قد دخل عالما من التيه يحدثه صاحبه مسترسلا ولا يسمعه.
شاهد عمود الإنارة ودخل في حوار مع ذاته: يا له من قديم بلغ من العمر ثمانين عاما، قد ارتكز في هذا الشارع الأثري بكل ثبات، يا له من زمن، يا ترى كم من الأحوال مرت عليه في لياليه الحالكة؟! كم من سارق تسلل من جانبه متلفتا مذعورا؟! وكم من صالح سار بصدقة السر متخفيا مسرورا؟! وكم من أب هام على وجهه لم يجد لطفله المريض مالا ليسعفه، شاردا حزينا ومقهورا وكم من صاحب جاه عاد من سهرة محورها زيادة لعلاقاته ونفوذه متباهيا مغرورا؟!
لو أنني كنت مكانه، هل سأشاهد النقيضين؟
أيعقل أن أرى تاجر المخدرات ومن وقع ضحيتها؟ وبائع الصحيفة ومالكها؟ وعامل القمامة والمتخم الذي أسعفوه من أمامه؟ الحامي والحرامي، القاضي من أمام مبنى وقوع الجريمة؟ أيعقل أن تقترب الأقطاب ولا تقترب، تتوافق ولا تتفق، تتكاشف ولا تنكشف، أيعقل أن تسير الحياة في دوائرها وفي مسرحها، كل له دوره الذي ينسج منه خيطا من خيوط القصة؟
أتلتقي الخيوط في كومة الصوف وتفترق على قطع القماش كل يسير في فلكه والحياكة وحدها تفرق بين القبعة والجورب.
يا لها من أعاجيب، تكتظ القصص في ركن واحد، وتزدحم المآسي والأفراح تحت نور عمود واحد وتنعكس الألوان المختلفة من شعاع واحد وتدور الحياة وتتغير الأحوال ولا يتغير هو؟ ألأنه محايد لم يمسسه ضر؟ أم لاحتياجهم له يستمر؟ أم لأنه قد زهد بما عندهم قد شمخ واستقر؟ وإن سجل التاريخ الذي شاهد، هل سينصف أم سيقتلعه الطرف الخاسر بمعول شر؟
لا لا أيكتب عمودا أصما تاريخنا؟ هل سيدرك أن شخصا واحدا حمل النقيضين قد يمر من أمامه لا لا لا أعتقد أنه سيدرك هذا فهذه المسائل لا ينتبه لها عمود الإنارة!
إفاقة من بعد غياب، يعود الكاتب معها ليسأل صاحبه: عفوا لم أنتبه لما قلت؟
humod2020@