رجل تناصف الخمسين من عمره يخاطبني بروح الشباب، لا يكل من تكرار البدايات المختلفة وكأنه في ربيع العمر، يرى أن النجاح رحلة أجرها حاضر بحضور الانطلاقة والنية الحسنة، وأن التحرك للخير يحرك الغير، ويحركك لأكثر مما نويت من الخير فهو متوالد متزايد متصاعد.
هكذا أتذكره وأنا في طريقي إليه ما أجمل النبلاء، حاضرون في غيابهم وإن بعدت أجسادهم، وما أجمل المحبة في الله ظل تحت عرش الرحمن.
صدق ونصح وإيمان وجمال وتألق وحث على الخير، تبصر من خلالهم العالم في أجمل صوره وتخال المصائب غنائم بجميل مواساتهم، والمغانم كنوز من الأجور بنور بصيرتهم، فالأجر هنا مضاعف ما بين أخوة وتعلم وتأدب،
«حين هاتفني قال: كيف حالك أخي الغالي، مشتاق للقياك والجلوس معك، الآن أنا مستقر في العنوان الفلاني، لابد من أن نلتقي».
أنهى مكالمته معي وقد كنت حريصا على لقائه لأن مثله يعطيك حافزا ودافعا للتقدم، فضلا عن أنه رجل صاحب علم وخلق وأدب جم..
وهأنا عند بابه في مكانه المتواضع والذي لا يلتفت له كثير ممن تمسكوا بهوامش الدنيا الزائفة، الذين جعلوا من ذاتهم ثوبا وسيارة وبيتا وسلعة.. تعجب الناس وتلفت انتباههم وتسحرهم لكنها تباع وتشترى.
فتح الباب بوجهه الباسم المتهلل عانقته حبا وكرامة وتبادلنا التحايا والسلام.. وانطلقنا في حديثنا الماتع لارتباطه بإعمار الأرض والمساهمة في بناء الأمة، ونحن هنا نستمتع لأننا نعطي أنفسنا وذواتنا ولأننا نرتوي من معين الصالحين - جعلنا الله وإياكم منهم - ولأننا نسقي أرواحنا العطشى وقلوبنا الصادية، بكلمة دافعة وبفكرة ماتعة وموعظة رادعة تتخللها الممازحات (والقفشات).
رأيته وفي يده قطعة خبز بدأ بتفتيتها بعد أن صنع لي كوبا من الشاي وعيني المتأملة لكلامه قد زاحمتها المتسائلة عما يصنع، حتى امتلأ الطبق الصغير بفتات الخبز المتناهية في الصغر لعله يعد طعامه بشكل يتناسب مع سنه لا.. من يأكل فتات الخبز والخيارات كثيرة والخير وافر ولله الحمد.
دفعت فضولي بحزم التأدب فإذ بالإجابة تأتي عمليا، وضعه خارج الشباك الذي سرعان ما اكتظ بأعداد هائلة من الطيور وكأنها تنتظر موعد الطعام، وكأنها تتجول حوله معتمدة على رزق قد ساقه الله لها من خلال هذا الرجل الكريم.
تسابقت لتظفر بطعامها متزاحمة على الطبق الصغير وقد تدلت أعناقها الدقيقة وهي ترفرف بأجنحتها لتحقق الاتزان والإقدام والحذر، وقد تطاير بعض الفتات لتناله حواصر الطيور التي في الصفوف الخلفية فلا شيء يذهب.
يحدثني عن طموحات كبيرة لخدمة الأمة ولا يغفل عن الصغير والبسيط من العطاء، هي النفوس العظيمة تستشعر كل شيء، وتحسن التعلم من كل شيء، وتبادر في كل شيء، لذا كانت هي أعظم شيء، كالغيث أينما وقع نفع، كالماء الرقراق يتسلل بين حبات الرمال لروي الكبير والصغير والواضح والمنزوي، لا اختيارات في عطائه ولا تصنيف ولا تردد ولا احتقار للمعروف مهما صغر.
فرب ابتسامة خلقت تغيرا في نفس من لا تعلم، ورب كلمة صنعت مشروعا في ذهن حائر أراد الدلالة دون أن تشعر، ورب سلوك بنا، وحنو أثمر خيرا وأنت من جنا، وتواضع رفع، وقول معروف منع، وتشيع دفع، وعطاء أيقظ من أكل قلبه الجشع.
هكذا التقينا وهكذا تأثرت بهذه اللقطة وهكذا كتبت لكم وهكذا تنمو في أنفسكم من فتات الخبز لتثمر خيرا يصب في ميزانه من دون أن يعلم فحركوا الخير ولو صغر، فانهمار الخير من سد النفوس قد يتفجر بسقوط أصغر حجر.
humod2020@