زائر يخطف الأحباب من الأحضان، ويتفنن في جرح القلوب وكسر الخواطر، زائر أبدع في تجفيف المدامع وسرقة الابتسامة من الشفاه، عصف بنا وتركنا حطاماً تتقاذفنا الأيام كما الريشة في مهب الرياح، ضيف لم نحسن استقباله ولم نخطط لوصوله، يداهمنا في مخادعنا على غفلة منا، السقيم والسليم عنده سواء، والكبار والصغار عنده سيان، لا براءة الطفولة ولا عنفوان الشباب تشفع لنا عند ذلك الضيف المباغت، وحتى الشيوخ الركع السجود لا يسهو عنهم زائرنا ولا تسقط أسماؤهم سهوا من سجله، أحزاننا وحرقة قلوبنا لا تحرك به ساكنا ولا تثنيه عن مباغتتنا، زائر خلف وراءه أمهات ثكلى وآباء مفجوعين يتجرعون لوعة الفراق، وأطفالا يتامى تائهين في دروب الحياة، وزوجات قصم ظهورهن وأوهن عظامهن المصاب الجلل وعظم المسؤوليات، ولم تبق لنا إلا الذكريات الحزينة كالجمر تكوي فؤادنا وتسكب عبراتنا، زائر يطرق كل الأبواب ويجوب كل الطرقات، في لمح البصر يسكت الشفاه، ويقطع الأنفاس، وتلتف الساق بالساق، زائر نتناساه لكن هو لا ينساك، إنه الموت وهو حق على كل العباد، (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، فهل أعددنا العدة، وشحذنا الهمة، واستبرأنا الذمة وأخلصنا النية للقاء الموعود؟
لا تضحك ولا يطول بك الأمل فاليوم عبدالله هو المحمول وغدا أنت المحمول، حري بنا أن نعد العدة لسفر لا رجوع فيه، والنهاية إما إلى جنة وإما إلى نار، حاسب نفسك يا عبدالله قبل فوات الأوان واجعل جمع الحسنات هوايتك كما أن هواية بعض الناس جمع العملات والمقتنيات القديمة، واجعل الإحسان شعار حياتك وديدنك، فاعبد الله كأنك ترأه فإن لم تكن ترأه فإنه يراك، وتعامل مع الخلق بكمال إنساني منقطع النظير لله وبالله.
ولو تحدثنا عن مجالس العزاء في زمننا هذا فحدث ولا حرج، الناس قست قلوبهم ولم يعد للموت رهبة وعظة بل أصبحت مجالس العزاء مجرد برستيج ودعوة للتفاخر لدرجة أن المعزين في واد وأهل الميت في واد آخر من الحزن والصمت ولوعة الفقد، ترى المعزين في المقبرة وبعد دفن الميت مباشرة يتحدثون عن العقار والأسهم والمضاربات كأنهم في قاعة البورصة وكأن الميت لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.
وللأسف مجالس عزاء النساء أدهى وأمر، حيث ظهرت فيها ظواهر سلبية دخيلة على المجتمع الكويتي، حيث تجد النسوة والبنات يتفاخرن بالساعات والحقائب والنظارات الشمسية الماركة دون خجل ولا حياء، وترى البنات يصبغن وجوههن بمكياج العزاء كما يسميه أصحاب الصالونات النسائية، والمشاهد والملحوظ عرض الأزياء للعبايات والأحذية الماركة أعزكم الله وأكرمكم.
ومن البرستيج الملموس على أرض الواقع أن المعزية تضع رجلا على رجل لتظهر جمال عباءتها وماركة حذائها، أعزكم الله وأكرمكم، وفي مجالس العزاء تكثر مشاريع الخطبة والزواج لأن البنات يكُنَّ على حقيقتهن لا تكلف في اللباس ولا المكياج اللهم مكياج العزاء.
ومما يزيد الطين بلة التكلف في بوفيهات الغداء والعشاء حتى يصاب أهل الميت والمعزين بالتخمة وفي أيام العزاء، وعلى موائد الطعام تعلو الضحكات والتشره «العتاب» والجدال العقيم بين الحضور دون احترام لحرمة الميت ولا مراعاة لمشاعر أهله، ناهيك عن انقطاع أهل العزاء عن أعمالهم ومصالحهم إلى جانب ترك أقارب الميت لمنازلهم لساعات طويلة منذ الصباح حتى المساء مشاركة منهم لأهل الميت.
ما سبق ذكره لم يكن من ضرب الخيال إنما واقع مؤلم نعيشه يحتاج منا إلى وقفة جادة وتوعية واسعة، فالذي رحل إنسان وليس بقط أو شاة جمعتنا معه جلسات ومواقف ومشاعر وصلات، فلذلك هو يحتاج منا إلى الدعاء والاستغفار والذكر الطيب، وأهله يحتاجون منا إلى مواساة صادقة وحميمية متدفقة خالية من البهرجة والمجاملات. فهل من متعظ؟؟
ebtisam_aloun@