ما معنى أن يكون الإنسان حرا؟
اختلفت الإجابة عن هذا السؤال باختلاف المدارس الفكرية ومبانيها النظرية، ولكن مع اختلافها تكاد تجتمع على أن الإنسان الحر هو من يملك القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذه دون أن يحد من إرادته أي ضغط أو إكراه، وأنه صاحب الإرادة في تحديد خياراته، والقدرة على التحرك اتجاه تنفيذها متحديا العوائق والقيود المعنوية أو المادية التي قد تواجهه، سواء كانت ذاتية نابعة من نفسه أو خارجية متعلقة بمحيطه.
بعيدا عن تعقيدات فلسفة المفاهيم المتنوعة عن الحرية الإنسانية، يهمني أن أقف عند تحققاتها الواقعية في حياة أحدنا.
حالات التجسد الواقعي للحرية الإنسانية في الحياة تواجه منهجين رئيسيين، المنهج الأول الذي يبيح للفرد التغول في تحقيق ذاته وأحلامه المادية والسلطوية حتى لو تضخمت وشكلت إعاقة فعلية في سبيل إحراز الآخرين على حاجاتهم الإنسانية الأساسية، فلا بأس في ذلك فالقانون الاجتماعي الرأسمالي يحميه مادام لم يثبت عليه التعدي الظاهري، وفي مثل هذا المنهج لا مكان للأخلاق والتضحية والإيثار إذ إن القبلة المقصودة فيه إحراز المصالح الفردية بأعلى قدر ممكن.
أما المنهج الثاني وهو المرتبط بالرسالات الإلهية ومثاله الإسلام المحمدي الأصيل، هذا المنهج الرباني حرر الفرد الإنساني من التبعية لأي شيء آخر سوى الله تعالى الذي خلقه وأفاض عليه رزقه وبيده تدبير حياته وإليه معاده (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.. الروم: 40)، وحتى في تبعيته لخالقه هو حر على مستوى عقيدته وسلوكه في دنياه، إن شاء آمن وإن شاء لم يؤمن (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم.. التكوير: 27-28) ولكنه يتحمل تبعات قراراته الفكرية وأعماله، ومع ذلك لم يترك الإسلام بتشريعه الإلهي المجال لأي فرد أن يستعلي على الآخرين إذ إن حريته محكومة بإرادة الرب سبحانه وتعاليمه وأحكامه التي لا تجيز لأحد التعدي على الغير (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.. الأنبياء: 107).
كل حر يحتاج إلى قدرة يستمد منها القوة والإمكان في تنفيذ إرادته المستقلة، المنهج الأول حينما يقرر للإنسان أن يمارس حريته لا يركز على تخليصه من قيوده الذاتية التي تعطله عن تحقيق مصالحه الحقيقية، وإنما فقط يستحثه على استثارة شيء من هذه القدرات الذاتية والاستعانة بها في مواجهة العقبات الخارجية مستثمرا ما يستطيعه في دنياه، مقطوعا عن خالقه وآخرته.
بينما المنهج الثاني الرباني يجعل المنطلق لتحرير النفس من القيود الذاتية والخارجية بانتصار الإرادة العاقلة التي يحكم الإنسان بها وجوده منتصرا على الرغبات والشهوات المنجزة لمكاسب دنيوية محدودة النفع والأثر، ولكن كثيرة الضرر على المدى البعيد الدنيوي والآخروي.
وكم هي المعركة صعبة جدا في تحصيل التحرير الفعلي إذ إن ميدانها الذات، حيث الالتحام بين المحارب والمحارب وانتفاء مساحة المناورة المكشوفة في ميدان الصراع الضيق، لذا سماها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد الأكبر.
وكم هو محظوظ هذا المحارب في مجاهدة نفسه لنيل مصالحه في الدنيا الزائلة وتخليد منافعه في الحياة الأخروية الخالدة، إذ إنه تسنده القدرة الإلهية الخارقة والمدد الرباني السخي غير المنقوص (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.. محمد/ 7).
[email protected]