من أجمل المتع الإنسانية في الحياة أن يشعر الإنسان بحريته التي أنعم الله عليه بها، بجميع أبعادها الباطنية والظاهرية، وكل من يسعى لتحصيل ذلك يتمثله من خلال تصور أحلامه وطموحاته التي تحتاج إلى إرادته الحرة والقادرة على تحقيقها.
في الآونة الأخيرة امتلأت المكتبات العربية بكتب تنمية الذات المترجمة عن منهجية الفكر الرأسمالي، والتي أصبحت مصدر المادة الرئيسية لدورات التنمية البشرية وتحرير طاقات الطامحين لتحقيق ذاتهم، نعم منهجية هذه الكتب مليئة بالتجارب الناجحة في آليات توظيف القدرات الفردية والجمعية للإنسان للوصول لأهداف دنيوية محددة.
وضروري في حراك المجتمعات والمدارس الفكرية أن تتبادل التجارب والخبرات النافعة، ولكن في مجال الاستفادة من الآخرين ينبغي أن ندرك المساحة المشتركة بيننا وبينهم في مجال الفكر والتجربة ما يتيح لنا الاستفادة الحقيقية من إنجازاتهم النظرية والعملية دون أن نخلق في ضمائرنا صراعا بين متناقضات حقيقية تمزق وجودنا الداخلي الفكري والنفسي.
مثال لذلك كون تحرير الذات بالمنهجية الرأسمالية يرتكز على استثارة قدراتها على أنها تملك المشيئة المطلقة والحتمية في الوصول إلى ما تريد من الطموحات الدنيوية متى ما أرادت وسعت لتذليل الصعاب لنيلها.
بينما في عقيدتنا الإسلامية الأمور مرهونة بالمشيئة والقدرة الإلهية، فالرب سبحانه يطلب من عباده عمران ذواتهم ومجتمعاتهم، ويعدهم إن بذلوا أقصى ما عندهم من جهد متوكلين عليه سبحانه فهو قطعا سيعينهم وينصرهم ويذلل لهم الصعاب (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره ـ الطلاق: 3)، بل يريد منهم بناء دنياهم وآخرتهم في آن واحد، فيطلب منهم أن يحققوا أقصى طموح تصل إليه بصيرتهم في الدنيا وتتخلد آثاره لهم في دار الخلود الآخروية.
أما إذا أراد الإنسان أن يتكل على قدراته الذاتية دون الاستمداد من رب القدرة تبارك وتقدس فإنه قد يصل لما يريد، وقد لا يصل (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ـ الإسراء: 18).
إذن بإمكان الإنسان المؤمن بالمنهج الإلهي في تحرير الذات وتنميتها أن يستفيد مما ينفع من تجارب المناهج الأخرى دون أن يؤله ذاته ويقدس الأنا في وجوده، بل ينفتح عليها ويتفهم الطاقات التي أودعها الله فيه، فيقدرها بشكر خالقه المبدع شكرا عمليا، وذلك بتوجيه هذه النعم الذاتية لبناء نفسه ومن حوله بعطاء كريم وأخلاقيات ومراق سلوكية متعالية على الشهوات الضيقة الزائلة ومتحررة بقوة من قيودها الداخلية الجبارة.
هذه القيود الشهوية والغضبية متى ما استطاع الإنسان أن يتمرد عليها ويحطمها بإرادة عاقلة قد عرفت ما تريد، وكيف تستمد من مسبب الأسباب الله سبحانه المدد للانتصار على العقبات، ومضاعفة الثمار الإيجابية لمساعيها التنموية، متى ما استطاع أحدنا أن يحقق ذلك لوجوده، فإنه سيكون الحر حقا كما ولدته أمه بطبيعة الخلقة الإلهية الحرة.
(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ـ النحل: 97 )، حياة طيبة في الدنيا وفي الآخرة، وهو ما لا تستطيع مناهج التنمية البشرية المنقطعة عن الله جل وعلا أن تزود به أحدا.
[email protected]