وجهه بشوش وله سمت ووقار، أرشدني في المحل الذي يعمل فيه إلى سؤلي، مبينا أن بضاعتهم لا توفر مطلبي، لفتت مسمعي دقة لهجته الكويتية وكعادتي بفتح الأحاديث مع البشر بغض النظر عن مدة معرفتي لهم، سألته ما بلده الأصلي، فقال أنا جزائري، ولكن عائلتي في الكويت منذ «الروبية».
قلت في نفسي: لمثل أولئك تمنح الجنسية، ما الوطن إن لم يكن عطاء وبقاء وولاء بالرغم عن كل شيء؟
لهجة سكان بلاد المغرب العربي صعبة قليلا، وأظن كذلك لهجتنا بالنسبة إليهم لذلك أعجبت بقدرته على إتقان «الكويتية» بتلك الجودة، واستدرك بأنه ليس جزائري الجنسية فقط بل النسب، أي ترجع أصوله للأمير عبدالقادر الجزائري، قال: هل تعرفينه؟ قلت: نعم أعرفه.
كان الرجل علامة في التاريخ، وكلما ذكر شخصا أو حدثا قال: هل تعلمين؟ فأرد: نعم، لأنني بالفعل أعرف كل ما قاله، وأظنه حسب أن «نعم» ليست إلا: أكمل أكمل، وليست بمعنى: أعلم، وهو ما اعتاد عليه الناس بأن يجيبوا بنعم ليأخذ الكلام مجراه ويصل الى منتهاه وليس لعلم ومعرفة، ولأنه يدري أن الأغلبية لا يعلمون.
لم أمل الرجل من تكرار التحقق من علمي بما يقول، فالجهل مستتب في الأمة التي يتكلم عنها، أمة لا تعرف كثيرا من تراثها، وكتب تاريخها المستعمر، وفرض المحتل ثقافته على أجيالها، كيف لها أن تعرف الحقيقة؟
حديثه عن حال الأمة باعث للحزن، فهذا النوع من الأحاديث ما إن يبدأ حتى تشعر بأن مسكن الألم الذي تخدر به تفكيرك بواقع الحال المرير بدأ يزول رويدا رويدا، ويعود لعقلك الشعور بالغصات مع اجترار الأحداث، في كل رواية وكفاح وجهاد ونصر وهزيمة وخذلان وخيانة ويأس واستسلام وموت وملل ووو...تنفتح غرزة من الجرح.
حفيد الأمير عبدالقادر يعرف أسباب تسمية «الفحاحيل والفنطاس» ومناطق الكويت في حين ليس كل كويتي يعرف أو اهتم بالبحث والسؤال، هو سيغادر الكويت وسيبقى الذي لا يدري لماذا سميت «الفنيطيس».
لحيته البيضاء بخجل تقول ان هذا المكان الذي ولدت فيه أسرة كاملة لم يعد يسعها، لم تعد الكويت هي هي أم «الروبية» وما عاد الناس يحبون العرب المهاجرين إلى الصحراء واحتملوا حرارتها قبل «التكييف»، أولئك الذين أحبوا الكويت قبل أن يتفجر النفط ويتحول بيت الطين إلى فلل و«سوق واجف» إلى مجمعات تنافس مبتدعيها في بلاد ناطحات السحاب.
عقود مرت عليه وهو في ذات المكان الذي يعمل به، أو ذات المهنة مع تغيير رب العمل ولكن هل شفعت له ولكثيرين غيره، حياة قضوها في الكويت؟ لا.
لا يوجد عمر يحدده القانون ليصبح مثل «حفيد الأمير» مواطنا، أبدا، لأن المواطنة لدينا في الكويت تأتي بالوراثة، عدا الجينات فهي تخضع لتعقيدات جمة، الكثير من «لا أعلم» كان ردي على تشابك واختلاف الحالات ممن ولدوا في الكويت وقضى آباؤهم نحبهم فيها ومازالوا وافدين يدفعون رسوم الإقامة ومنهم من يحتاج لكفيل مواطن قد يكون ولد بعده بعمر ولا يعرف سبب تسمية «الفنطاس بالفنطاس»!
لم يدر بيني وبين «الجزائري» حوار عن الجنسية في الحقيقة، ولكنها أضغاث فكرة تئن ولا تسكن مع زوال المخدر الذي حدثتكم عنه سابقا، فإن انفتق الجرح بدأ بالنزيف.
هكذا تشعر عندما لا يكفي التاريخ لإثبات أحقيتك في البقاء داخل وطن هو كل ما تعرف عن الأوطان، تعرف إن كان مكان اللون الأحمر أو الأخضر في الأعلى عندما يرفع العلم، تحفظ نشيده الوطني واسم مؤلفه، تشرح معنى «الطواويش» للمواطنين الجدد، الذين سبقتهم إلى الوطن وسبقوك إلى المواطنة!
تدل طريق مدرسة المباركية والمستشفى «الأمريكاني» قبل أن ترصف الطرق، تعرف العائلات التي كانت تسكن «جبلة» و«شرق» وأنهم تركوا تلك المناطق بعد «التثمين»...
آه يا وطن ما عادت تنفع معه مسكنات الألم.
@kholoudalkhames