اليوم الأول للمدرسة هو كل يوم من أول شهر حتى يستقر نظام الطالب في الفصل ويتأقلم مع البيئة الجديدة من زملاء ومعلمين، ويألف المبنى، المكان، إن كان جديداً.
والأم كانت المنبّه للأبناء، وأنا كانت جدتي، رحمها الله، ساعتي البيولوجية وجرس الإيقاظ وكل أجراس حياتي للبشارات والنذر على سواء.
جدتي قبل موعد الجرس بساعتين على الأقل: «يلا أمي يلا بنتي مدرسة البنات الشطار بدت، يلا نغسل ونتريق خووووش خبزة بالسمسم وحليبة بالزعفران وأصبلج بيض عيون، عفية على بنتي».
أنا أتمطى تدللاً وأستجيب لأن عمتي نورة، ناظرة المدرسة، تنتظرني لتصحبني معها وفي الطريق «تسولف» وتضحك وتقص الحكايات الإيجابية الجميلة عن التلميذة المتميزة وكيف أن المدرسة مكان «يونّس» وبعد نهاية اليوم هناك «برِّد» وهو غاية أحلامنا آنذاك.
أمهات اليوم قبل موعد الحصة الأولى بساعة: تفتح الباب بقوة وتصرخ: قومواااااا تأخرنا يلاااااا أنا بلبس وبركب السيارة واللي يتأخر بمشي عنه.
العيال يفزون فزعين ويتداعمون وماراثون بين الحمام، أعزكم الله، والخزانة و«تلقط الدفاتر والكتب» ووضعها في الحقيبة المدرسية، وركض على السلالم ثم بعد لهاث «يركبون الجيب» وعيونهم طايرة وبراطمهم بيض»!
طبيعي فالوقت يداهمهم لأن الأم تريد النوم لآخر ثانية حتى تستريح لتؤدي وظيفتها بأكمل وجه، بينما أمومتها وظيفة ثانوية مؤجلة!
مثال بسيط وواقعي قس عليه عزيزي القارئ بقية الحكاية.
كانوا يقولون عن «الأولين» أميين لأنهم غير متعلمين، اقرؤوا الفرق أعلاه بين جدتي الأمية والأمهات المتعلمات وترحموا على جيل من «الأميّات» هنّ أنفسهنّ اللواتي صنعن جيشاً صالحاً من مشروع أم متعلمة لتنفع بعلمها أسرتها، ولكنهن، البعض طبعاً، فرطن بما أنشأتهن عليه الأمهات والجدات الأوليات.
مؤشر الواقع بيّن أن نتاج الأميّات أفضل وبفارق كبير من نتاج المتعلمات، أخلاقياً وقيَمياً وعلمياً أيضاً، فالمتعلمات توظفن وصرن أمهات أيضاً، ولكن أصبحت كل منهن تلاحق مهام وأوقات العمل خارج المنزل، والتربية والتعليم والتنشئة وهم عمل كامل بذاته صعب جداً الجمع بينه وبين الوظيفة، جعلته الثاني في أولوياتها، لذلك ضعفت كفاءة الأم مقابل كفاءة الموظفة، ومن تقلب هذه المعادلة فقط تستطيع منافسة عمل «الأميّات السابقات» مع أبنائها.
أنا أم وموظفة عاملة ومنذ أن تخرجت تزوجت وأنجبت، أي كانت أمومتي مرافقة لمهنتي وعملي النظامي، وواجهت ما لا أستطيع سرده على عجالة هنا من المصاعب في الجمع بين مهامي داخل الأسرة وخارجها، ولكن بفضل الله المعين، ثم دعاء جدتي، رحمها الله، أن أكون أما صالحة، ثم الدعم التام من عائلتي وصاحبات الظل، تمكنت من السير في طريقي العمل داخل الأسرة وخارجها الشاقين بين مد وجزر وتجاذب وصراع وتنافس بينهما على الفوز بأولوياتي.
تأرجحتْ إمكانياتي وقدراتي وطاقتي، ولكن الذي ينتصر دائماً ذاك الذي زرعته تربيتي في أولى سنوات عمري، والجذر الذي حفرت له جدتي، رحمها الله، بأظافرها داخل تربة طفولتي وألقت بذور القيم العامة والرئيسة «العيب، الدين، الحلال، الحرام، الجائز غير اللائق، المسموح... وهكذا» وقد رافقتني وكانت وما زالت خارطة طريقي.
ليس ذلك فحسب، بل تكفل برعاية تلك البذور وسقياها عماتي الفضليات، عائشة ونورة ورقية وأماني وغنيمة، وعمّاي محمد وأحمد، نظام دعم متكامل أنعم الله به علي كطفلة يتيمة الأم، أبدلني ربي بأمهات ست، جدتي وعماتي الخمس، وبثلاث آباء، فمن يقدر على هذا الود سوى اللطيف.
اليوم وأنا أم لابن وابنة في منتصف عقدهما الثاني، وبعد أن رحل من رحل من فريق الدعم الذي تركته لي جدتي، لا تزال العمة رقية الحبيبة ممسكة بإبريق الماء تسقي نخلة القيم لتمشي إلى عقدها الخامس مستقيمة ولا تفقد صراطها في رياح الحياة.
وما زال العم «بابا أحمد» يبعث بدعوات التوفيق المصحوبة بنظرات الأب الفخور، وما أزال أسأله كطفلة: بابا تحبني، ويجيب: أموت عليج يبه.
كم منكنّ محظوظة مثلي ولكن اعتيادها على وجود نعمة العائلة الداعمة أنساها الشكر؟
هذه رسالتي في العام الدراسي الجديد للأمهات، لعلها وصلت.
kholoudalkhames@