نشأنا على كذبة الأم مدرسة، حتى كبرنا وصرنا أمهات فاكتشفنا أنها ليست مدرسة، بل هي حياة متكاملة.
الأمومة تبدأ معها منذ أن تعي أنها أنثى، تقتني العرائس لتعتني بها بفطرة الرغبة في رعاية الآخر، ثم تجد نفسها الأم الثانية لأخيها الذكر، من دون أن يطلب منها ذلك أحد، تمسك بيده دائما إذا خرجا من المنزل، تحضر له كأس الماء قبل أن يعطش، وتعرف أفضل طعامه، تشتري له الملابس المناسبة لذوقه، تمرر له الأموال من تحت الطاولة إن حرم من مصروفه، الأخت تقدم المودة والرحمة لأخيها قبل زوجته، لذلك تجد تلك الغريبة القادمة بالرداء الأبيض في منافستها لتكون قريبة منه عملا يتطلب اجتهادا.
تكون أول الركب لانتقاء عروسته، يهمس في أذنها اختبارات لتطبقها على أم عياله للتحقق من ملاءمتها له، أول زغاريد في زفافه تنطلق من بين شفتيها المرتجفتين سعادة وخوفا وفرحا وترقبا، أخوها يذهب لتطعمه وتسقيه امرأة أخرى لا تعرفه مثلها، ولكنها الحياة، ماذا بعد نعد ونحصي؟ الأخت أم صغرى.
وعندما تصبح أما، تبدأ الرحلة الأخرى، رحلة إلى اللحد، إما لها أو لطفلها أيهما يسبق، فتسطر خلالها لقواميس اللغة معاني لا منتهية لكلمة «أم».
منذ أن تعلم بحملها ترى البنت «بطرحتها» والولد «ببشته»، كذلك النساء بخيالهن الواسع، يحكن قصصا عن فقيرات يتزوجن من أمراء ويتمنين أنهن بطلات الروايات، ويتسع ذاك الخيال إذا صرن أمهات، الأم موسوعة من الأمنيات، كل سطر فيها لأبنائها ونصيبها منها دموع الفرح وتكفيها وتزيد.
إرهاق الرضاعة الطبيعية تعيشه كتميز لعلاقة خاصة لا ينازعها فيها أحد، لتكون تلك المسافة الشخصية بينها وبين طفلها هي الخبيئة التي بينها وبينه، فإن جره الشيطان يوما لعقوقها أخرجتها ليستذكر عيونا لم تنم وهو جائع، وما زالت تراقبه وهو نائم قد يتأرق.
الأم تتأخر عن مواعيدها ولكن تسبق جرس المدرسة لتستقبل عيالها عند الباب بأحضانها وتحمل حقائبهم وتسقيهم الماء البارد، لا تنتظر حتى يصلوا إلى السيارة، أي رحمة هذه!
الأم تلغي زياراتها وارتباطاتها ولكنها تصحب أبناءها لأتفه موعد فقط لأنهم يرونه مهما، وتقف تنتظرهم، وإن غادرت فإلى أقرب مكان حتى تهرع إليهم قبل انتهاء الوقت لتكون الوجه الذي لا يتخلف والبسمة التي لا تغيب.
الأم مجموعة أحلام تأجلت، لتكون رغبات الأبناء مشروعها حتى تأخذ بهم من أمواج المحيط إلى مرسى الحياة، وقد تكون روح الأم ملأى بجروح لم تلتئم بسبب زوج سيئ وأب غير مبال، فتخفي مشاعرها عن أطفالها لتمنحهم الطمأنينة والاستقرار النفسي والأسري، من قال إن فاقد الشيء لا يعطيه؟! الأم تعطي كل شيء وإن فقدت كل شيء، ما دام عيالها هم السبب.
أنا أم، لست بمثالية الصفات أعلاه، ولكني منذ زمن وضعت في الخزنة جميع رغباتي وأمنياتي وأحلامي حتى يطير أصغر عصفور بجناحيه، فأفتحها مرة أخرى إن كان لمحتواها صلاحية بعد.
ومنذ سبعة وعشرين عاما بقي كثير من مؤلفاتي مشاريع غير مكتملة، والتزاماتي الاجتماعية (المواجيب) محدودة جدا، ومواعيد الرياضة والنادي لا تتعارض مع وجودهم في البيت، وحتى الطعام والنوم مرتبطان بجداولهم، فالجلوس على مائدة الطعام بالنسبة لي طقس تعبير عن حب عائلي، وليس إشباع معدة فقط.
أما قبل النوم فكنا نقرأ الأدعية والقرآن الكريم عندما كانوا أطفالا وننام محصنين من الشيطان، وقد كبروا وها أنا أقرأ أدعية قبل النوم من خلف أبوابهم لتطير وتحط فوق قلوبهم وتمر على أجسادهم وتحفظ أرواحهم من كل سوء.
الأمومة لغة خاصة بحد ذاتها بل لكل أم لغتها ومفرداتها.
هل تكفي سطور لتحكي قصة الأم؟ لا.
إن خيال كاتب يعجز عن شرح كيف للأم أن تكون رداء الأبناء فلا يبلى حتى بعد موتها، بل ويبقى كأنه روحها تلتف حولهم لتحول بينهم وبين أي خطر.
فخجلت أن أضع أي كلمة في العنوان بقرب: «الأم».
kholoudalkhames@