د. محمود ملحم
نسمع بين الحين والآخر بالعقوبات الاقتصادية على الدول (أحيانا من أوروبا وأخرى من الأمم المتحدة وعادة من الولايات المتحدة الأميركية)، أما أن تأتي العقوبات من مجلس جامعة الدول العربية وعلى دولة عربيه، ففي الموضوع سر يستوجب التوقف عنده وطرح المئات من الأسئلة عن مدى قابلية تطبيق هذه العقوبات.
يستهويني الموضوع لأسأل: ما وضع دولة عربية بامتياز عضو مؤسس وفاعل في جامعة الدول العربية؟ فلبنان الذي لا حول ولا قوة له إلا البحر بعد اليوم ودولة تشكل سورية المنفذ الوحيد لها، إلا إذا قررنا أن نرمي لبنان إلى فم الأسد ليصبح لقمة سهلة؟ والسؤال الآخر: كيف يمكن تطبيق عقوبات على سورية والحدود مشرعة مع لبنان ولا يمكن ضبطها بالمطلق؟
فهنالك قرابة نسب ومصاهرة وقرى متداخلة وتبادل في الطباع وتجانس في التقاليد وهذه الحدود لا يمكن لأي احد في العالم أن يضبطها، أما في الشرق فيسكن الأخوة، وفي الغرب من الحدود بين لبنان وسورية هناك الأهل، فقد تحمل العقوبات العربية تداعيات على الاقتصاد السوري بشكل عام تداعيات خطرة، إذ تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والحياتية القائمة والتي تشهد تراجعا قويا للنمو الاقتصادي من 5.5% إلى نمو سلبي بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسية والعقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية وأخرها العقوبات العربية، وتظهر مفاعيلها من خلال تقلص الصادرات أكثر من 25% وتراجع الحركة السياحية.
لا شك أن في الموضوع تأثيرا كبيرا على المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي في السنوات السابقة (حوالي 9 ملايين سائح)، أكثر من 60% وانخفاض الحركة الاستثمارية أكثر من 40%، وتباطؤ نشاط القطاع المصرفي وتراجع موجوداته نحو 13% إضافة إلى خسارة النقد الوطني السوري نحو 10% من قيمته وتقلص موجودات المصرف المركزي السوري بالعملات الأجنبية نحو ملياري دولار (من 18 إلى 16 مليار دولار)، وهروب الأموال إلى الخارج وتوقف تحويلات السوريين العاملين في الخارج والضغط المستمر على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي كانت ولا زالت تدفع ضريبة المواقف والقرارات.
ووافقت جامعة الدول العربية على العقوبات الاقتصادية على سورية، فقد كان عنوانها اقتصاديا بحيث هدفها عزل النظام وإنهاكه اقتصاديا وتفكيك أوصاله تدريجيا. وجاءت العقوبات لتطال في الدرجة الأولى الشعب السوري من خلال تضييق الخناق عليه ومضاعفة معاناته ومآسيه المعيشية واليومية بهدف تحميل النظام المسؤولية. أتت العقوبات لتقضي على آمال الأطفال في العثور على الحليب والفقراء في العثور على الخبز وهنا يطرح السؤال: هل سيؤثر الحصار الاقتصادي على نظام مثل النظام السوري وهل الحدود مع لبنان والعراق سوف تقفل أمام تزويد الطبقات الغنية والفئات النافذة بالمؤن؟
ان أول الذين سيصرخون في القريب العاجل من العقوبات الاقتصادية على سورية هو لبنان، فستنهك السياحة فيه وسيغرق الوضع الاقتصادي في مستنقعات الحصار وسيتأثر لبنان بشكل مباشر وغير مباشر بالعقوبات الاقتصادية العربية على سورية وخاصة على الأصعدة الأساسية التي تضرب في شكل عام الوضع الاقتصادي في لبنان لأنها تدخل لبنان في أجواء من عدم اليقين والقلق وعدم الاستقرار بفعل العلاقات الإستراتيجية التي تربط لبنان بسورية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وجغرافيا، خاصة العلاقات العائلية المتداخلة (طبيعة الأرض) التي ومن المستحيل أن يحكمها شيء، فالعلاقة بين الحدود اللبنانية والحدود السورية علاقة تاريخية تكاد لا تميز اللبناني من السوري في تلك المنطقة، ناهيك عن الحدود مع العراق، وبفعل وجود أبعاد سياسية ودولية لهذه العقوبات لقد انخفض النمو الاقتصادي في لبنان في العام الحالي من 7.5% إلى اقل من 2.5%، والآتي أعظم.
إلا إذا كنا نفكر بتحويل لبنان إلى يونان آخر لتجتمع الدول العربية وتفكر بمنح الاقتصاد اللبناني مساعدات وهبات، علّ العقوبات تجدي نفعا في القريب العاجل، يضاف إلى ذلك أن تلك العقوبات تعيق المبادلات التجارية مع المنطقة العربية وتركيا، لكون سورية تشكل الشريان الحيوي والمعبر الوحيد الذي يربط لبنان مع هذه الدول كما أنه يعمق مشاكل ومعاناة قطاعي الصناعة والزراعة. وبالعودة الى الأرقام تبلغ المبادلات التجارية مع المنطقة 4.450 مليارات دولار منها 1.875 مليار دولار للصادرات و2.575 مليار دولار للواردات، فكيف سيتحرك الاقتصاد اللبناني في ظل معبر بري وحيد وهو سورية الا اذا برز في الأفق وفي القريب العاجل اتفاق سلام مع الحدود الأخرى ولا ننسى طبعا أخيرا السياحة في لبنان ـ الرئة والخاصرة لجميع الدول العربية ـ أن العقوبات الاقتصادية تشكل عاملا سلبيا على القطاع السياحي إذ يصل إلى لبنان سنويا عبر المعابر السورية أكثر من 300 ألف سائح عربي كحد ادنى وكلهم من الدول العربية المجاورة والتي لا تستطيع شراء وحجز تذاكر vip. لقد تراجعت الحركة السياحية في الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي نحو 20%، والآتي أعظم، إضافة إلى أهم عنصر من عناصر الاقتصاد اللبناني، القطاع المصرفي التي تشكل العقوبات مهما قيل او سيقال الضربة القاضية له وخاصة على صعيد ربحيته ونشاطه لكون إجمالي موجودات المصارف اللبنانية العاملة في سوريا تبلغ نحو 6.6 مليارات دولار أي حوالي 5% من إجمالي موجودات القطاع المصرفي في لبنان كما ان إجمالي رساميلها تبلغ 545 مليون دولار إي حوالي 7% من إجمالي رساميل المصارف اللبنانية فضلا عن ان المصارف السورية مازال وضعها متماسكا واداؤها مقبولا برغم وجود خسائر ملحوظة في مستوى الارباح، وتراجع حوالي 18% في حجم الودائع وانخفاض طفيف في حجم التسليفات. فإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه ستنكشف المصارف اللبنانية، وتهرب الأموال والاستثمارات، سينكشف القطاع المصرفي ليصيب بأضراره جميع الدول، ستنكشف السرية المصرفية، أحجية القطاع المصرفي، واذا ما انكشف هذا القطاع نستطيع بالفعل ان نقول على لبنان السلام.
[email protected]