إلهي ليس للعشاق ذنب ولكن أنت تبلو العاشقينا!
العشق أشد درجات الحب ضراوة، وأكثرها فتكاً بالإنسان، خاصة إذا فارق العاشق من يحب، إنها معاناة شديدة ربما تكون نهايتها مأساوية، فيدفع العاشق حياته ثمنا لهذا العشق، مثل قيس بن الملوح وعروة بن حزام، وغيرهما من عشاق العرب، بقصص أشبه ما تكون بالخيال وإن كانت واقعية، وقد ألف في هذا الجانب جعفر بن أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي كتابه المشهور«مصارع العشاق» وتحدث من خلاله عن عشاق العرب بإسهاب، والحاصل أن العشق ليس بالأمر السهل، وإنما سمّ زعاف يتجرعه العاشق إذا فقد من أحب، أعاذنا الله وإياكم من العشق وتبعاته، وبيت الشعر يدور في هذا الفلك، إلا أن فكرته مبتكرة وغير مسبوقة على الطريقة الصوفية، وقد توجه شاعره الى الخالق عز وجل مباشرة وبلا مقدمات، مبينا لنا انه لا إثم ولا جرم على العاشقين إذا عشقوا، فأنت يا خالقي وإلهي مسبب الأسباب، ومدبر الكون امتحنتنا بالعشق، واختبرتنا به دون إرادة منا، فما نحن إلا عبيدك، والأمر أمرك يا صاحب الأمر، وهذا الامتحان الذي امتحنتنا به صعب للغاية، ثم يزداد الشاعر جرأة في بيته الثاني فيقول:
فتخلق كل ذي وجه جميل
به تسبي قلوب الناظرينا
وعلى نفس السياق يقول: إن الله تعالى هو من خلق الجمال، الآخذ بمجامع قلوبنا، فتهشّ له أنفسنا عند النظر إليه، فنعشقه، لذا فلا ذنب لنا ولا جريرة علينا، في عشق هذا الجمال، ثم يظهر لنا أمر آخر في بيته الثالث فيقول على نفس السياق وبحيرة ودهشة ظاهرة:
وتأمرنا بغضّ الطرف عنهم
كأنك ماخلقت لنا عيونا !
وهنا طرح سؤالا، ووجهه إلى الله تعالى مفاده: كيف تأمرنا يا إلهنا وخالقنا بصرف أنظارنا عن رؤية هذا الجمال؟ وكيف نمنع عيوننا من التمتع بهذه الصور البديعة؟ وكيف نقدر على ذلك، وأنت من وهبتنا عيونا نبصر بها؟ هذا ما أراد أن يقوله لنا، مع مراعاتي للاختصار في الشرح، والعجب من هذا الشاعر الذي جعل وظيفة العيون حصرا في النظر إلى الجمال، ليس إلا! وهنا لابد من الإشارة إلى أمر مهم للغاية، وهو أن الشاعر يجوز له مالا يجوز لغيره، ومع ذلك فالله تعالى يقول: «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون» (30 - النور) وقد تفنن شعراء الصوفية بمثل هذه الأشعار، وخاصة ما يسمى بالعشق الإلهي، ومنهم شاعر هذه الأبيات: الحسين بن منصور بن محمي الحلاج نسبة لحرفة ندف القطن، وهو أحد أعلام التصوف في العصر العباسي، وقد ولد سنة 244 للهجرة في بيضاء فارس، ونشأ في واسط، ثم عاش في بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وتعلم بها واشتهر شهرة واسعة، وطور النظرة العامة للتصوف، فاختلف الناس في أمره اختلافا شديدا، خاصة وأنه تبنى الجهاد ضد الظلم والطغيان، فأثر ذلك على السلطة السياسية الحاكمة في وقته، فرمي بالزندقة، واتهم بتعطيل الشريعة، والإلحاد فأمرت السلطات بسجنه انفراديا، والاحتياط عليه، ثم صدرت فتوى بإجماع العلماء والقضاة بضرورة إعدامه، فصدق الخليفة العباسي جعفر المقتدر بالله بن أحمد المعتضد (317- 295) على ذلك فأعدم على الملأ في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 309 للهجرة، فذهب أناس الى اعتباره «شهيد التصوف» وللحلاج ترجمة وافية في الكثير من المراجع الأدبية والتاريخية عند الطبري وابن الأثير والذهبي وابن خلكان وابن الجوزي، وقد اورد له الخطيب البغدادي في تاريخه أبياتا في غاية الجودة يقول فيها:
من سارروه وأبدى كل ماستروا
ولم يراع اتصالا كان غشاشا
إذا النفوس أذاعت سر ما عملت
فكل ما خلته من عقلها حاشا
من لم يصن سر مولاه وسيده
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وعاقبوه على ما كان من زلل
وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
وجانبوه فلم يصلح لقربهم
لما رأوه على الأسرار نباشا
وقد نصب رأس الحلاج في بغداد للعامة، وأحرقت جثته ولما صارت رمادا ألقيت في دجلة، ومن مشهور شعره قوله:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائل عن قصتنا
لو ترانا لم تفرق بيننا
والله تعالى أعلم بحال هذا الرجل وأترككم في رعاية الله.
[email protected]