لطالما شنف أسماعنا الإعلامي أحمد سالم - رحمه الله - بصوته الإذاعي المميز من خلال إذاعة الكويت قائلا: وعند جهينة الخبر اليقين، فكنا نتابع هذا البرنامج بشغف، وقد نجح نجاحا كبيرا ونال جوائز عدة، ومن خلال سماعنا لهذا البرنامج كنا نظن واهمين أن جهينة هذا رجل فاضل تكاملت فيه الأخلاق الحميدة، فضرب به المثل في صدق العبارة والخبر اليقين، هكذا تخيلناه ونحن في شبابنا الأول، ولكن الواقع خلاف ذلك تماما، كأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، لقد اتضحت لنا أمور كانت خافية علينا، فمن هو هذا الرجل جهينة صاحب الخبر اليقين؟ وما حكايته؟ لا شك أن كثيرا من الناس لا يعرفون جهينة الذي يضرب به المثل بصدق الخبر، ربما يكون ذلك لقلة الاضطلاع ومشاغل الدنيا التي لا تنتهي، وقد وردت قصته في كتاب الأمثال للميداني وكتاب الفاخر في الأمثال للمفضل الضبي، واتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك بعد معرفتنا القصة واستيعابها أننا أمام صعلوك من صعاليك العرب في الجاهلية، ولص من أشهر لصوصها، قاطع طريق منبوذ من قبيلته ومن القبائل الأخرى، مثل المجرم الذي تطارده العدالة، لكثرة جرائمه، ومع ذلك كان شاعرا فاتكا خاربا، واسمه الأخنس بن كعب الجهني، عرف بالشر والغدر وهو مشهور في وقته ولم يكن لهذا الرجل إلا ولا ذمة، ولكثرة شروره هرب من قومه لأنهم أهدروا دمه، ثم صاحب رجلا مثله بالصعلكة وقطع الطريق فوافق شن طبقه، وهذا الرجل يدعى الحصين بن معاوية الكلابي فعاهده على الوفاء والصفاء وتقاسم الغنيمة، إلا أنه غدر به كعادته وقتله على حين غرة، وأخذ كل ما معه، والعجيب أننا ومنذ خلقنا نستشهد بجهينة هذا، وكأنه من الصالحين، وقد قال لزوجة الحصين بعد أن أعياها تطلب زوجها واختفاءه المريب، وطول غيبته وحزنها الشديد عليه في أحد أسواق الجاهلية:
تسائل عن حصين كل ركب
وعند جهينة الخبر اليقين
فمن يك سائلا عنه فعندي
لصاحبه البيان المستبين
فجاءها بالخبر اليقين، والناس بطبيعتها لها الظاهر وما خفي تكله إلى الله، وبما أن الناس ضربوا المثل بصدق خبر جهينة فيؤسفني القول ان جهينة هذا لم يعد بيننا، لقد ذهب إلى حيث حلت رحالها أم قشعم، ولا نعلم أين توجه ولا أخاله إلا وقد مات وقبر وعفى أثره، وما أعنيه الصدق، فالصدق اليوم صار مثل العملة النادرة، نسمع به ولا نراه! صار أثرا بعد عين، ولعمري إنه أمر عجيب للغاية، حتى اننا نندهش إذا وجدنا رجلا صادقا في هذا الوقت لقلة الصدق، بل ونبحث عن الصادق في كل مكان، ولا نجده إلا بشق الأنفس، لكثرة الكذب والكذابين، وانتشار الأخبار الملفقة، حتى وصل الأمر إلى التباهي والتفاخر بالكذب، فما السبب في ذلك؟ ما سبب موت الصدق؟ وما سبب انتشار الكذب؟ الأسباب كثيرة، وأهمها على الإطلاق ابتعادنا عن قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا، وموروث أجدادنا المبني على شريعتنا السمحة، وبذلك نكون ابتعدنا عن خالقنا، وإذا ابتعدنا عن الله ابتعد الله عنا، فيموت الصدق في أنفسنا، ونستمرئ الكذب ويحلو لنا، لذلك يؤسفني القول ان جهينة مات وشبع موتا، لقد أصبح جهينة كأن لم يكن، تغلبت مواعيد عرقوب على خبر جهينة، وهزمته هزيمة نكراء، ولو عدنا إلى الله تعالى لعاد الصدق ولأمتنا الكذب، وفي النهاية لا أنفي وجود الصدق ولكن إذا قارناه بالكذب وجدنا الكذب أضعافا مضاعفة، فلا مانع أن أتظاهر بالغنى وأنا مفلس، والتظاهر بالشجاعة وأنا أجبن من نعامة، فاللهم أحسن خاتمتنا.