قطار العمر يمضي سريعا ونحن في غفلة، تمر السنون تلو السنين مثل طيف أحلام دون أن نشعر بذلك، ومراحل العمر أشبه ما تكون بالمحطات التي ننتقل بها من محطة إلى محطة حتى يصل بنا المطاف إلى أن يقف بنا القطار عند محطتنا الأخيرة ولسان حالنا يقول: ما أسرعك يا زمن، مثل السلم الذي تصعده درجة درجة حتى إذا ما بلغت نهايته عاودت النزول درجة درجة حتى تصل الى الدرجة الأخيرة، وهي نقطة النهاية، فتضعف قواك، ويقل نظرك، ويتراخى عزمك، فتنظر إلى نفسك مليا متذكرا سنين عمرك الأولى أيام شبابك وقوتك، وتقول بحسرة:
بكيت على الشباب بدمع عيني
فلم يعن البكاء ولا النحيب
عريت من الشباب وكنت غضا
كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعود يوما
لأخبره بما فعل المشيب
إنه أمر الله الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وإنها النهاية الحتمية لكل البشر، فكل حي هالك، وكل رطب سيصبح يابسا، فالموت لا يستثنى منه أحد مهما بلغ من العمر عتيا:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء منقول
والحقيقة انه عندما يتقدم العمر بالإنسان يعلم تمام العلم أنه أوشك أو كاد أن يصل الى يومه الأخير شاء ذلك أم لم يشأ، فيحاول جاهدا أن يتغافل عن هذا اليوم ثم يعاود التفكير به ليتدبر أمره وأمامه قول الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم «يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عن الناس»، وهذا الشعور والإحساس ينتاب كثيرا ممن تقدم بهم العمر، وربما قال المرء لنفسه: لقد دنت ساعة الرحيل ومفارقة الأهل والأحبة، واقترب من عرصتنا هادم اللذات ومفرق الجماعات.
لذا تجده يحاول قدر طاقته فيما بقي له من سنين عمره التي لا يعلم كم هي، أن يستعد ويتأهب لهذا اليوم الحاسم، فهو يوم لا بد منه، ويوم له ما بعده، وفي هذه المرحلة المتقدمة من العمر يمر في ذهنه شريط عمره منذ وعى ما حوله حتى الساعة التي يعيش فيها، فيتذكر كل ما فعله من حسن وسيئ، فيحاول جاهدا دفع السيئة بالحسنة، ويتمنى لو طال به العمر ليكثر من عمل الخير، وهو يعلم تمام العلم أن الجنة محفوفة بالمكاره، وأن أعمالنا في الخير لو بلغت عنان السماء لن نذوق طعم الجنة بها، وإنما برحمة الله تعالى ومغفرته، ومن نعم الله علينا أن أخفى توقيت الموت عنا، وإلا لكنا متنا هما وغما، ولا شك أن استقبال الموت خير من استدباره.