الشباب ربيع الحياة وزهرة الدنيا، ولكنه عارية مستردة ومرحلة من مراحل حياة الإنسان، وما ذهب لا يرجع، أكان الشباب أم غيره، نسمع كثيرا من يقول إن الشباب شباب القلب والروح فنطرب لذلك ونسر ونبتسم مينا وكذبا، بل ونصدق أنفسنا ونعيش الدور ولكن الحقيقة خلاف ذلك، لأن هذا القول عكس ما نراه ونتلمسه ونشعر به، وليس واقعيا من الأساس، فقد فصل لنا الله تعالى مراحل العمر تفصيلا واضحا في قوله عز وجل: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون ـ غافر: 67) هذه سنة الحياة ومشيئة الله تعالى، وقد بلغ الجاحظ التسعين عاما فسُئل عن حاله فأجاب:
أترجو أن تكون وأنت شيخ
كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
دريس كالجديد من الثياب
نعم ليس كمثل الشباب شيء وإنما نروح عن أنفسنا بتصديق هذه الأقاويل، وشطر بيت الشعر الذي أشرت له في البداية بدأه صاحبه بحرف النداء (يا) ينادي به شيئا بعيدا وهو شبابه، ولكن الشباب لن يجيبه لأنه ذهب بلا رجعة ولن يجيبه إلا صدى صوته، ألا ترى صالح بن عبدالقدوس يقول:
ذهب الشباب فما له من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهرب
وشاعرنا ابن الرومي يقول:
يا شبابي وأين مني شبابي
آذنتني حباله بانقضاب
لقد أقر برحيل شبابه ودنو أجله، فالشيب رسل المنايا، وقد انقطعت حبال شبابه، لذا نجده يتحسر على تلك الأيام الخوالي فيقول:
لهف نفسي على نعيمي ولهوي
تحت أفنانه اللدان الرطاب
وهنا صور الشباب أجمل تصوير فجعله مثل الشجرة الخضراء ذات الأغصان اللينة الرطبة، وكذلك الشباب أيامه حلوة ولا تعرف ذلك إلا إذا ولى شبابك وتقدمت بك السن، يقول أبوعمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب وما بلغت كنهه، وكثير من الناس يتمنى عودة الشباب للاستمتاع مرة ثانية ولإصلاح ما أفسد، ولكنه أماني كواذب مثل السراب، ولندع الشباب جانبا ونرى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الشيب فقد قال: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» وقال أيضا عليه أفضل الصلاة والسلام «الشيب نور المؤمن لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة» وأختم بأفضل ما قيل في التحسر على الشباب حيث يقول أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم:
بكيت على الشباب بدمع عيني
فلم يعن البكاء ولا النحيب
عريت من الشباب وكان غضا
كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشباب يعود يوما
لأخبره بما فعل المشيب
دمتم سالمين