الكم والكيف مصطلحان بسيطان، ولكن الفرق بينهما كبير، فالكم مقدار الشيء وعدده، والكيف هو النوع، وبين الكم والكيف جدال طويل ملأ الكتب، فهناك أناس يهمهم الكم ولا يعنيهم الكيف، وهم كثر في هذا الزمان، وهؤلاء الناس يهمهم المظهر لا الجوهر، بينما هناك من يحرص على الكيف وهم أقل بكثير ممن يعجبهم الكيف، وللكيف أهمية قصوى مقارنة بالكم في المنظومة الإنسانية الصحيحة، فالعبرة لا تكون بالكثرة وإنما بالنوعية والكيفية، انظر إلى الحديث إذا طال عليك وتشعب أخذت خلاصته وتركت ما سوى ذلك، وفي تفضيل الكم على الكيف خطأ كبير وانحراف على المبادئ الثابتة، ومع ذلك نجد أناسا كثرا مولعين بالكم أيما ولع، يسألون كم يملك فلان من المال؟ ولا يسألون عن كيفية تعامله مع الناس وأخلاقه وهو الأهم، وقد نجد أيضا على سبيل المثال مؤلفا كتب عشرات الأعمال الفنية ولكن لا تأثير لهذه الأعمال على المجتمع لأنها تفتقر إلى هموم ومشاكل الناس ولا تمت للواقع بصلة، وهذا هو الكم بعينه، فيما نرى مؤلفا آخر أعماله قليلة إلا أنها مؤثرة، وهنا تبرز أهمية الكيف على الكم، فليس العبرة بغزارة الأعمال ولكن العبرة بتأثيرها على المجتمع، فالفكر الذي لا يدافع عن القيم الإنسانية ويناقش سلبيات وإيجابيات المجتمع لا يسمى فكرا، بل ملهاة وضحك على الذقون، وللشعر العربي نصيب في إظهار أن الكيف هو الأساس حيث يقول أحد الشعراء:
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا
فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا
عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ
وأفضل من ذلك قول المولى عز وجل: (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) البقرة، فقد انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر على المشركين وهو في قلة قليلة، على أعدائه وهم أضعاف عدد المسلمين، في حين كاد ينهزم المسلمون في معركة حنين وهم كثرة أمام القلة القليلة لولا لطف الله تعالى، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم دروس وعبر كلها تدل على عنايته بالكيف لا الكم، حتى الإنسان ذاته لا يقاس بطوله وعرضه وقوته وسماره وبياضه ووسامته، ولكن بعقله وفكره وأخلاقه، فلم يكن هناك أكبر أجسادا وقوة من عاد إرم ذات العماد، فانظر إلى ما صاروا إليه من عذاب شديد، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه عاش أربعا وخمسين سنة أو نحوها وترك لنا ما لا يبيد ولا يفنى، علما هائلا يستفاد منه حتى تقوم الساعة، وهذا أبو مسلم الخرساني عاش ثلاثين سنة ونيفا فأسقط الدولة الأموية وأقام الدولة العباسية، فعليكم بالكيف لا بالكم، ودمتم سالمين.