التواضع خلق الكبار، وصفة الأنبياء والمرسلين، ولا يتواضع إلا الواثق من نفسه والمتوكل على ربه، فالدنيا لا تدوم لأحد، أين الدول التي سادت ثم بادت، وأين الملوك والسلاطين (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وبالعودة للمثل «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع» فهو حكمة بالغة من رجل حكيم وإمام من كبار الأئمة، وهو محمد بن إدريس الشافعي القرشي، وفيه العبرة والعظة والدرس لمن يغره المنصب، ودعوة صادقة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة وأولها التواضع، فلا يغتر المرء بمكانته فيتعالى ويتكبر على الناس، فيأتيه اليوم الذي يفقد فيه المنصب والناس معا، ولا يكون ذلك إلا بفتح أبوابه للناس، واستقبالهم برحابة صدر، ومساعدة من يحتاج إلى مساعدته، وأن يتحلى بالصبر والحكمة وبعد النظر، وأن يعامل الناس بالحسنى، ويقبل النصيحة، ويعلم تمام العلم أن دوام الحال من المحال، وأن المناصب لا تدوم لأحد، وقد قال الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: «لو دامت لغيرك، ما وصلت إليك». فالمكان الذي جلست فيه جلس فيه قبلك الكثيرون، ثم ذهبوا وصاروا أحاديث إما حسنة وإما سيئة، وأنت كذلك ستتبعهم ولنا في تاريخنا الإسلامي عبر كثيرة، فهذا سلطان بغداد وفارس عضد الدولة الحسين بن بويه الديلمي أبو شجاع (ت: 372 للهجرة) وصل الى مكانة كبيرة بين الملوك والسلاطين في عصره، فغرته نفسه وملكه وعظم سلطانه، فطغى وتجبر وسمى نفسه ملك الأملاك، حتى قال لنفسه:
عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر
فلم يفلح بعد بيت الشعر هذا، ولم ينفعه سلطانه فقد ضربه الله بالصرع، وحين أخذ في علة موته، لم يكن له كلام سوى قول الله تعالى: (ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه) الحاقة فكان كقول الإمام الشافعي:
ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع
فكل من يظن أنه فوق الناس بشره بالخسران والخذلان، وكلما تواضع المرء زاد رفعة عند الله والناس، فالتواضع خلق شريف وجوهر لطيف، وهو من كريم السجايا، وثمرته محبة الناس واحترامهم ولله در الكريزي حيث يقول:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عز وخير ومنعة
فكم مات أقوام هم منك أمنع
وبالتواضع تعم الألفة والمحبة بين الناس.. ودمتم سالمين.