هذا ما نشعر به كلما عادت بنا الذاكرة إلى الماضي، وتذكرنا أناسا كانوا بمنزلة عالية في قلوبنا ثم فقدناهم ولم نعد نراهم، ورغم ذلك بقيت صورهم الجميلة عالقة في أذهاننا، متمكنة من قلوبنا، حتى ان هذه الصور وإن غابت عنا لبرهة عادت ثانية، فنظل نراها أمامنا، هم أناس كبرنا على حبهم، وما زلنا نحبهم رغم أنهم ذهبوا بعيدا عنا، تركونا في هذه الدنيا نكابد لوعاتها ونصارع الأيام كأن بيننا وبينها ثأرا قديما، لن ننسى تلك الوجوه المتفائلة الراضية القانعة، والتي تعلمنا منها كيف نواجه مصاعب الحياة ومشاقها، دروس وعبر تعلمناها منهم، كانوا يقولون لنا «إن أمسكم أفضل من يومكم هذا، ويومكم أفضل من غدكم، وغدكم أفضل مما بعده»، فكان ما قالوه واقعا عشناه وتلمسناه، يقول العباس بن الأحنف:
وما مر يوم أرتجي فيه راحة
فأذكره إلا بكيت على أمس
كانت الدنيا بهم أنسا وفرحا، وأصبحت بعدهم وحشة وترحا، إن الماضي هو الأساس والعمود الذي قامت عليه حياتنا، كم كانت الحياة بسيطة وعفوية، وكم كنا نحب بعضنا بعضا، نحن نعلم أن الماضي لن يعود، ولكن دعونا نعش ذكرياته، نسلّ أنفسنا ونتنفس صعداء عبيره، هناك من يقول لنا لا تتوغلوا في الماضي فتعانوا من الفرق الكبير بينه وبين الحاضر، فحاولنا ذلك إلا أننا لم نستطع، سبحان الله لا جميل يبقى ولا ماض يعود، هكذا الدنيا، كأننا أسرى الماضي:
كنا وكنتم والزمان مساعد
عجبا لهذا الشمل كيف تشتتا
كان الابن إذا سمع صوت أبيه خنع واستكان وارعوى، واليوم تبدل الحال، تصوروا أن بعض الآباء في هذا الوقت لا يمونون على أبنائهم، وليت الأمر يقف عند هذا الحد ولكن الأمور تسير إلى الأسوأ، فهذا ابن عاق طعن ظهر أبيه بسكين، وهذا ابن آخر اعتدى بالضرب على أمه! وذاك أودع أباه دار المسنين، تربت يداك وخاب مسعاك، أين تذهب يا أشقى الناس من عقاب الله تعالى، وأين بر الوالدين الذي أوصى به الله تعالى ورسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؟
إن العاق بوالديه لن يرى الجنة ولن يشم رائحتها حتى يلج الجمل سم الخياط، روى جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق»، من هنا أقول إن الماضي رائع بكل تفاصيله، والناس كانوا أروع، انظروا إلى الأعمال الفنية التي أكل عليها الدهر وشرب مازلنا نشاهدها وبشغف، ثم نعيدها المرة تلو المرة وبلا ملل، انظروا إلى الأسواق القديمة كيف يتزاحم عليها الناس ليتذكروا المنازل الخوالي، التي عاش بها آباؤنا وأجدادنا، فلا لوم ولا عتب علينا إن اشتقنا للماضي، ولله در عمرو بن الوليد حيث يقول:
أحن إلى تلك الوجوه صبابة
كأني أسير في السلاسل راهن
ودمتم سالمين.