تساءل بعض القراء عن عنوان المقال السابق، قائلين ليس للإعلام دور في المصالحة الوطنية وأنا معهم، لكن كان المقصود هو ما يجب على الإعلام فعله بعد المصالحة الوطنية، فالمصالحة تعد الهدف الأسمى الذي يصبو إليه أي مجتمع، لكن يصعب تحديد ما تعنيه هذه المصالحة إذ إنها مرتبطة بالإطار السياسي والثقافي والتاريخي الخاص بالمجتمع وهنا دور الإعلام للتوضيح والدعم والتشجيع.
ووفقا لـ «المركز الدولي للعدالة الانتقالية»، فإنه لا بد لعملية المصالحة قبل أي شيء من تهيئة، فليس من المنطقي أن ترتكز هذه العملية على حث الضحايا على المسامحة في ظل غياب أي إقرار حكومي واضح، وقد وضعت الوكالة السويدية لتنمية التعاون تعريفا للمصالحة الوطنية بأنها «عملية مجتمعية تتضمن اعترافا مشتركا بمعاناة الماضي وتغيير السلوك الهدام إلى بناء علاقة نحو سلام مستدام».
ويندرج مصطلح «المصالحة» في إطار ما يطلق عليه «العدالة الانتقالية»، وقد أخذ مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والإنسانية يتبلور في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ومنذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، شهد العالم تجارب عديدة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، من أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا ولبنان والمغرب والبحرين.
والمصالحة الوطنية وثيقة الصلة بمفهوم العدالة الانتقالية، فالمصالحة تشكل أحد أهم أهداف منظومة العدالة الانتقالية وغايتها النهائية، والمصالحة الوطنية نتيجة حتمية في الدول التي عانت من خلافات جذرية أو صراعات داخلية، وهي قد تتم بين أطياف محددة من المجتمع، أو بين المجتمع ونظام الحكم، وهي تعد من أهم مفردات أي تسوية سياسية، تنشأ على أساسها علاقة قائمة على التسامح والعدل بين الأطياف السياسية والمجتمعية بهدف طي صفحة الماضي وتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة، وعدم تحقيقها قد يفشل هذه التسوية برمتها.
وكثيرا ما يشار إلى مفهوم «المصالحة» في المناقشات المتعلقة بالعدالة الانتقالية، غير أن لهذا المفهوم عدة معان مختلفة، فهو في نظر البعض مرتبط بالجهود المبذولة من جانب الأنظمة «لطي صفحة الماضي» أو «للعفو والنسيان»، لكن المدافعين عن حقوق الإنسان نادرا ما يقبلون هذه الصيغة من المصالحة، محتجين بقوة بأن المصالحة الحقيقية يجب أن تكون مرتبطة بالمحاسبة والعدالة والاعتراف، أما الانتقاد الثاني الموجه إلى المصالحة، فهو أنها تقدم غالبا كهدف نهائي وقابل للإنجاز دون إيلاء ما يكفي من الاهتمام للعملية التي يمكن أن تنجز من خلالها، وعليه، فإن الإفراط في التركيز على المصالحة قد يؤدي إلى الفشل وخيبة الأمل، وقد ألقى التطرف بظلاله على الشأن الإعلامي حينما جاء مسوقا لبعض المتبنيات الحزبية والسياسية والمذهبية فطرحها على أنها من اللوازم الدينية أو الوطنية التي لا يمكن إنكارها زاد الأمر تعقيدا، وقد خلق نوعا من الطائفية البغيضة التي جاءت لتستوطن العقول وتزيد من التحزب السياسي والطائفي والمذهبي الذي ألحق ويلحق أفدح الأذى بوحدة التاريخ والمصير.
٭ آخر دعوانا: اللهم ألّف بين قلوبنا، اللهم احفظ نسيجنا الاجتماعي، اللهم احفظ ترابطنا وتراحمنا وتماسكنا وحنن قلوبنا على بعضنا، اللهم أرشدنا إلى الطريق الصحيح، ربنا أصلح حالنا وحال حكامنا وارزقهم البطانة الصالحة التي تشير لهم بالخير، (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به.. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا).