تاريخ العلاقات التركية- الروسية الممتد عبر قرون لا يسعف البلدين في إقامة روابط هادئة ومستقرة، بل اتسمت تلك العلاقات المضطربة بالتنافسية والتدافع وفي أحسن أحوالها بالفتور وعدم الثقة، فقد خاض البلدان منذ القرن السادس عشر عشرات الحروب من لدن الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى والتي تمخضت عن انهيار البلدين وسقوط الخلافة العثمانية وقيام روسيا البلشفية بعد الثورة على أسرة رومانوف القيصرية وإسقاط حكم آخر قياصرتها نيكولاي الثاني.
في استكمال لمسلسل التوتر التركي – الروسي أسقطت مقاتلة تركية مثيلتها الروسية لانتهاكها الأجواء التركية بعد تحذيرات عدة- على حد قول المسؤولين الأتراك- والذين زعموا أيضا أن المقاتلة الروسية قد مكثت في الأجواء التركية 17 ثانية فقط وبعمق ميل واحد لا أكثر، مع العلم أن المقاتلات الروسية سبق لها انتهاك الأجواء التركية عدة مرات دون رد تصعيدي كالذي حدث في الأخير منها.
لعل إسقاط المقاتلة الروسية كان مبيتا ومعدا له سلفا، فليس من المنطقي أن تعرض تركيا علاقاتها مع روسيا للتوتر الشديد لأجل انتهاك أجوائها لـ17 ثانية فحسب، كما أن المقاتلات الروسية لم تحلق فوق مناطق عسكرية تركية حساسة ولم تكن أيضا في مهمة تجسسية في أجوائها، وإنما كان السبب الحقيقي في إسقاطها القصف الروسي الكثيف على الميليشيات التركمانية والتي تحظى بدعم تركيا وتقاتل النظام السوري في ريف اللاذقية، يؤيد ذلك قتل تلك الميليشيات للطيار الروسي قبل أن يصل بمظلته الأرض، ولم تكلف نفسها أسره لأن المقصود هو الانتقام والعقاب ولا شيء غيرهما.
لعل الحكومة التركية لم تتوقع ردة الفعل الروسية القوية، وافتقد تعاطيها مع انتهاك أجوائها الواقعية والبراجماتية، وحاولت جاهدة التخفيف من الغضب الروسي لكنها على ما يبدو لم تنجح في ذلك، فالرئيس بوتين وصف إسقاط المقاتلة بالخيانة والطعنة في الظهر، ومن ناحية أخرى سارع الرئيس أردوغان إلى القول بعدم إصداره أمر الإسقاط، وكذلك القول بأن الجيش التركي لو علم جنسية المقاتلة الروسية لما أسقطها، وختم ذلك كله بأنه حزين للحادثة، وقد حاول أردوغان مرارا الاتصال ببوتين إلا أن الأخير تجاهلها ولم يكترث بها، كما قدمت تركيا تعازيها لروسيا لكنها رفضت مسألة الاعتذار فضلا عن التعويضات.
تركيا بإسقاطها المقاتلة الروسية قد خسرت الكثير اقتصاديا وعسكريا، ولا أدري إن كان الساسة الأتراك وهم يتخذون قرار الإسقاط قد حسبوا نتائج قرارهم هذا جيدا أم أنها كانت ردة فعل طائشة على استهداف إخوانهم التركمان في سورية، وهل كانت 17 ثانية من اختراق الأجواء تستحق كل تلك الخسائر الاقتصادية والسياسية الثقيلة؟ وما حدث مثال على النتائج العكسية غير المتوقعة لقرار كان متسرعا أو مبيتا، وسواء اتخذ من قبل فرد واحد أو أفراد، فالتركمان السوريون قد تعرضوا ويتعرضون لقصف كثيف بعد حادثة الإسقاط، والمنتجات التركية الزراعية إلى روسيا قد توقفت، والملايين من السياح الروس قد غادروا تركيا وهم من أكثر الجنسيات سياحة فيها، كما أن خط الغاز الروسي المزمع إنشاؤه مرورا بالأراضي التركية قد ألغي، ثم إن المقاتلات التركية التي كانت تتنزه داخل الأجواء السورية لن تجرؤ بعد اليوم حتى على الاقتراب منها بعد أن أدخلت روسيا منظومة s 400 المتطورة المضادة للطيران، وأخيرا فقد أوقفت شركة روساتوم الروسية بناء أول مفاعل نووي تركي، وتقدر الخسائر التركية من جراء العقوبات الروسية بأكثر من 9 مليارات دولار.
الرئيسان التركي والروسي معروفان بالعناد وعدم التراجع، وهذا ما سيجعل عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها أمرا عسيرا ومستبعدا في المستقبل المنظور، وكان الأجدى بتركيا احتواء الموقف والمسارعة إلى الاعتذار ودفع التعويضات المترتبة والتغاضي العسكري عن انتهاك أجوائها لـ 17 ثانية فقط والاكتفاء بالتحذيرات الديبلوماسية المتعارف عليها في هذا المجال، والحقيقة أن تركيا لم تخرج ولو بنتيجة واحدة إيجابية من إسقاطها المقاتلة الروسية، بل اكتسبت عداء إحدى القوى العالمية العظمى الأمر الذي قد يشعل فتيل حرب تلتهم ما أحرزته تركيا من نجاحات اقتصادية عبر أكثر من عقد.
mohd-alzuabi@