لم يكن أحد يتكهن بأن تبلغ الحريات الدينية في الجمهورية الفرنسية هذا الدرك من التراجع والاضمحلال، حتى وصلت إلى أن تقوم الشرطة بتجريد امرأة على الشاطئ من لباس اختارت أن ترتديه بملء إرادتها لقناعاتها الدينية والأخلاقية بحجة تعارضه مع القيم العلمانية للجمهورية فضلا عن مخالفته لقرارات رؤساء بعض البلديات الفرنسية الجنوبية، إضافة إلى اعتباره مهينا للمرأة وعودة بها إلى العصور الوسطى.
منذ متى كان رؤساء البلديات في الجمهورية الفرنسية رقباء على ما يرتديه المواطنون والمقيمون؟ ومن أعطاهم الحق ليقرروا ما على الناس أن ترتديه وتخلعه؟ بدا للبعض أن الجمهورية الفرنسية بعد منع ما يسمى بـ «البوركيني» بدأت تفقد قيمها التي قامت عليها وفي مقدمتها احترام الحريات، وبات جليا أن النور المنبثق طويلا منذ الثورة الفرنسية يأخذ في الخفوت شيئا فشيئا كلما ازدادت التحديات الأمنية.
الحجج التي تذرع بها رؤساء بعض البلديات لمنع لباس البحر الساتر «البوركيني» لا أساس لها، ولا نصيب لها من المنطق والقانون، فلا توجد مادة قانونية واحدة تمنع ارتداء زي سباحة محدد أو تضع ضوابط واضحة له، ثم كيف يتعارض «البوركيني» على الشاطئ مع قيم العلمانية ولا يتعارض لباس رجال الدين بمختلف دياناتهم في الشارع معها؟ ولم نسمع من قبل من طالب بمنع وضع القلنسوة الإسلامية أو اليهودية في الشارع لكونها تتعارض مع العلمانية، وما علاقة العلمانية بالأزياء وما يرتديه الناس؟ ظهر بعد ذلك أن رؤساء البلديات الذين أصدروا هذا القرار الرجعي والمتعارض مع أبسط أصول الحريات الشخصية ينتمون لليمين الفرنسي المتطرف والذي يجد له حاضنة واسعة في الجنوب الفرنسي ويكن العداء للأجانب والفرنسيين من أصول عربية وإسلامية ويهودية، ما يعطي تصورا مخيفا للسلم الأهلي في الجمهورية في حال حاز مثل هؤلاء الأغلبية البرلمانية في الانتخابات القادمة.
الغريب أن يسارع رئيس الوزراء الفرنسي لتأييد هذا القرار ويصفه بأنه ينصف المرأة التي تجبر على ارتداء «البوركيني»، وغاب عنه أن أغلب من يرتدينه بمحض اختيارهن ومن ضمنهن نساء غير مسلمات يرين أنه يحفظ للمرأة حشمتها ويعصمها من أن تكون متعة للناظرين، كان على رئيس الوزراء وهو يتقلد هذا المنصب الرفيع أن يدافع عن الحريات ويدين مثل هذه القرارات الجائرة لا أن يبررها ويبحث لها عن المخارج، وأغلب الظن أن رئيس الوزراء الفرنسي قال ما قال عن غير قناعة رغبة منه في جذب الأصوات اليمينية لحزبه الاشتراكي والتي بدأت تجنح في الفترة الأخيرة إلى حزب الجبهة الوطنية المتطرف المنتمي إلى أقصى اليمين.
الحوادث الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا في الأشهر الأخيرة والتي قام بها أفراد ينتسبون إلى الإسلام - والله أعلم بإسلامهم - كانت عاملا في تشكيل نظرة سلبية تجاه المسلمين الفرنسيين والمهاجرين، وأسهمت في ارتفاع أسهم حزب الجبهة الوطنية المتطرف، لكن هذا لا يعني بحال أن تتراجع الحريات إلى الخلف وتستهدف الأقليات البريئة وتوصم بالإرهاب وهي في مقدمة ضحاياه وما زالت تدفع ثمن تداعياته، وما لم يتوقف ذلك التمييز الناتج من عدم استمزاج البعض لطبيعة لباس بعض الأقليات فإن شرخا كبيرا ينتظر المجتمع الفرنسي وهوة مظلمة يخلقها دعاة الكراهية والعنصرية تأتي على شكل فرصة سانحة للتنظيمات الإرهابية لتجنيد ما تشاء من أفراد الأقليات التي تشعر بالتمييز والوطنية من الدرجة الثانية.
تدارك مجلس الدولة الفرنسي الأمر وألغى قرار منع «البوركيني»، إلا أن رؤساء بعض البلديات المعنية رفضوا الانصياع لحكم أعلى هيئة قضائية في فرنسا وأصروا على منع «البوركيني» على شواطئهم مراعاة «لمشاعر» مرتاديها الآخرين الذين يزعجهم رؤية امرأة ترتديه، وكأن نساء «البوركيني» لا مشاعر لهن، هل تدركون الآن إلى أي درجة بلغها تطرف اليمين الفرنسي إلى الحد الذي يعلن فيه عدم انصياعه لحكم مجلس الدولة؟!
mohd_alzuabi@