جلس على سريره في غرفة الإنعاش، ثم أسند رأسه المنهك إلى وسادة المستشفى..
تطل الغرفة على نافذة اجتمع وراءها كل من احبوه يوما، من رافقوه في رحلته القصيرة، من كانوا عونا وأحباء...
وبدأ شريط حياته المرهقة يمر أمامه كـ فيلم سينما كتبه وحيدا بخط يده وأخرجه بحرفية..
طفولة، ثم الحارة، البيت الباسط يديه على شارع القرية، جيرانه، مدرسته، شبابه وتعبه وغربته، زواجه، فنجان قهوته، ثم نهايته..
يا لسخافة ما نفكر به وما نركض خلفه، قال مستغربا وهو يلوح بيديه الهزيلتين...
جسم انهكه المرض وتمكن منه بسرعة قياسية، تلك الضحكة الرقيقة الجميلة، بهي الطلة ونعم الجليس.. كله يتهاوى خلال لحظات لا اكثر...
يصدر جهاز التنفس اصواتا غريبة، لا صوت موسيقى ولا صوت محببا للنفس.. هذا صوت اعلان بدء العد التنازلي لتسليم الأمانة...
يستدرك آخر أنفاسه ويهم بالجلوس فيعجز، ثم يحرك رجليه يمنة ويسرى ويفشل، يرفع كفه ملوحا طالبا المساعدة فظن الجميع انها حركة لا ارادية من المصل لا اكثر..
ضاقت الدنيا في عينيه كثيرا، واجه ماضيه بحسرة، بكى كما لم يبك من قبل ولعن الحظ الف الف مرة، وتمنى ان يعطينا الله نعمة علم الغيب لكان عاش على غير ما عاش...
هي هكذا، رحلة قصيرة نستلم امانة مذ نخلق لنسلمها بغير ارادتنا، هي دورة الحياة والموت..
مزيج الدم بالمرض بالعلاج الكيميائي يبرز حينها، تتغير الملامح فجأة، تجحظ العينان قليلا، يرافق الحب اخر أنفاسه الخارجة من فمه، تتيبس الشفتين، يحاول بقوة رفع اليد اليمنى، الكل ينتظر الإشارة خلف زجاج الأمل...
يرفعها ثم يخفضها بسرعة، هي في العينين قد بانت، لا شيء غيرها، كلمة لابد من كل انسان ان يقولها يوما ما..
الوداع..