خلال فترة الاتحاد السوفييتي السابق، تلقى أديب داغستان وشاعرها الفذ رسول حمزاتوف رسالة من إحدى المجلات الأسبوعية المشهورة في موسكو، تطلب منه كتابة رسالة «مختصرة» عن بلاده، على ألا تتعدى 10 صفحات وخلال مدة لا تزيد عن أسبوعين.
وقف حمزاتوف حائرا أمام الرسالة، شعر بالضيق وقرر أن يرد على المجلة بطريقته الخاصة، فقام بتأليف أشهر كتبه على الإطلاق وهو كتاب «بلدي»، والذي يتكون من 550 صفحة، استغرق في كتابتها عدة سنوات.
يذكر حمزاتوف هذه الحكاية في بداية الكتاب ويقول عن سبب تأليفه أنه لا يمكن اختصار بلاده داغستان في بضعة أسطر يكتبها خلال بضعة أيام.
كتاب «بلدي» تحفة أدبية لا توصف، تجعل من يقرأه يحب داغستان حتى وإن لم يرها.. هذا ما حدث معي، فأن تقرأ لرسول حمزاتوف يعني أن تحب داغستان، تحب جبالها ووديانها وتعشق شعبها وتقدر عاداتهم وتقاليدهم.. أن تتخيلها كأنك فيها.
***
كتب حمزاتوف في «بلدي»: قريتي تسادا، سبعون موقدا دافئا، سبعون خيط دخان أزرق يرتفع في سماء جبلية عالية وصافية، بيوت بيضاء فوق أرض سوداء.
أمام القرية، أمام البيوت البيضاء حقول خضر منبسطة، ووراء القرية تنتصب الصخور، لقد تزاحمت الصخور الرمادية فوق قريتنا كأنها أطفال اجتمعوا على سطح لينظروا إلى أسفل، إلى الحوش حيث يجري العرس..
وعن شعب داغستان الطيب كتب حمزاتوف: تشعل الجبلية (نسبة لسكان الجبال) في الصباح الباكر النار في الموقد، إنها تستعد لتسخين بقايا غداء الأمس الذي يكفي لإشباع العائلة، وفجأة يلوح في عتبة الباب ضيف، عندئذ يجب رفع القدر وما فيها من غداء الأمس عن النار، وإعداد طعام جديد.
وعندنا في الجبال ليس هناك ضيوف صغار وضيوف كبار، مهمين وغير مهمين، فأصغر ضيف هام بالنسبة لنا لأنه ضيف فحسب، وأصغر ضيف يصبح أكبر من أكبر رب بيت.
***
حمزاتوف كاتب عجيب، وشاعر ملهم، في أوائل الستينيات من القرن الماضي زار مدينة هيروشيما، ووقف مذهولا أمام تمثال «السلام» في حديقة هيروشيما العامة، هذا التمثال الذي يخلد ذكرى الطفلة «ساداكو» التي أصبحت رمزا لضحايا القنبلة النووية، هي وقصاصات الورق التي كانت تطويها على شكل طائر الكركي الأبيض لحظة سقوط القنبلة.
سحرته الأسطورة والتمثال ومأساة الفتاة اليابانية الصغيرة، فكتب على إثرها قصيدة «الكركي الأبيض» تحية للجنود الذيk سقطوا قتلى في المعارك، ولم يعودوا لأوطانهم ولم يدفنوا كما يدفن الناس، يقول حمزاتوف في قصيدته:
أحيانا يبدو لي أن الجنود
الذين لم يعودوا من أرض المعركة
ولم يدفنوا في أرض الوطن
إنما يتحولون لطائر كركي أبيض
***
حين ترجم الشاعر الروسي نعوم غريبنيوف قصيدة حمزاتوف، قرأها الفنان الروسي الشهير مارك بيرنيس، وشعر أنه خلق لغنائها، ورغم أنه كان طريح الفراش في آخر أيامه بسبب السرطان المنتشر في جسده، ومع هذا، لم يهدأ له بال حتى أنجز غناءها، ومات بعد تسجيلها بأيام قليلة، قبل أن يشهد انتشارها في جميع الاتحاد السوفييتي والعالم، حتى غدت رمزا وطنيا يرددها الجميع تخليدا لذكرى أبطالهم الذين قتلوا بعيدا عن أهلهم وديارهم.
[email protected]