تعود علاقتي بألمانيا إلى عام 1993، عندما تتلمذت على يد أستاذي الألماني، ثم زرتها معه ودخلت جامعاتها والتقيت بطلابها ودرست لغتها وأحببت كل شيء فيها.. شوارعها وثقافتها وآدابها وفلاسفتها وشعراءها وصناعاتها، وسياراتها بالتأكيد. أحب كانط وهيجل وماركس وهيدجر، أحب شليجل وشيلنج وغوته وهيلدورلن، أحب عمق الألمان ونفاذهم لروح الأديان والقيم، أحب التزامهم وطريقتهم في العمل. والغريب، أنني أحب في ألمانيا ما يكرهه كثير من الناس، وأعني الانضباط والدقة والاتقان. هذا ما أواجهه مع كثير من الأصدقاء أو ممن أتحدث معهم حديثا عابرا عندما أعبر عن اعجابي بألمانيا، فيقولون لي غالبا انها كئيبة وشعبها جاد يمثل لهم العمل أهم ما في الحياة.
> > >
أتابع التلفزيون الألماني «دويتشه فيلله» وأقرأ الكثير من التقارير في موقعهم الالكتروني يوميا، وإذا كان لي بعد هذه العشرة الطويلة أن أتحدث عن ألمانيا، فسأتحدث عن طريقتهم في العمل كما شهدتها وتعرفت عليها عن قرب.
الطريقة الألمانية في العمل بسيطة، لكنها عميقة وعقلانية تستمد قوتها من الفلسفة الألمانية المعروفة بالعمق والمثالية. بداية كل عمل يحتاج لمعايير محددة أولا، ومتطلبات ثانيا، وتحديد مهام وإجراءات بخطوات واضحة ثالثا. فهم لا يؤمنون بالمحاولة والخطأ أو التجارب خلال العمل. من هنا نفهم التقارير اليومية التي تتحدث عن المشاكل الكثيرة التي يواجهها المهاجرون العرب خاصة في ألمانيا في الاندماج والدخول إلى سوق العمل، فرغم تعطش سوق العمل الألماني للعمالة الأجنبية، وبذلهم الكثير من الجهد والمال في تهيئة بعض اللاجئين للعمل في المصانع والشركات، إلا أن الفشل واضح في هذا الجانب، والسبب الأكبر كما تتحدث كثير من التقارير الألمانية، يكمن في عدم قدرة كثير من اللاجئين على استيعاب الطريقة الألمانية في العمل، فهم معتادون على الكسل وإنجاز المهام بأقل جهد وبطرق ملتوية وثقافة «مشي حالك»! هذا لا يعجب الألمان ولا يقبلون به أبدا، ولذلك تجد في ألمانيا برامج تدريب خاصة بكل حرفة أو وظيفة، تتضمن تدريبا نظريا على مبادئ العمل وقيم الانضباط واحترام المواعيد والتنظيم، وجانبا عمليا يتضمن توضيح انجاز العمل خطوة بخطوة يجب الالتزام بها وتنفيذها كما تعمل الروبوتات. لم يستطع كثير من المهاجرين العرب تقبل هذه الطريقة أو تحملها بسبب صرامتها ودقتها. من هنا أيضا نفهم لماذا نجح الأتراك والإيرانيون مثلا في ألمانيا وأصبحوا من أهم الجاليات العاملة هناك، ذلك أنهم يحملون بذرة تلك القيم.. أعني الالتزام والإتقان والجدية.
> > >
كتبت قبل أيام مقالا عن أهمية العلوم الطبيعية وأن غيابها وغياب الفلسفة من أهم عوامل تخلفنا، على أمل أن نتأمل في حالنا البائس ونفهم أن فساد بعض المسؤولين ليس هو السبب الوحيد في تخلفنا، وإنما نحن أيضا شركاء في هذا الواقع المزري، بسبب خمولنا وكسلنا واستهتارنا بقيم العمل والإتقان، وتساهلنا في كل شيء وسخريتنا وضحكنا على كل شيء.. حتى أكبر مصائبنا تتحول لنكتة وتعليقات مضحكة!
[email protected]