في كتاب «الشامل في أصول الدين» لإمام الحرمين أبو المعالي الجويني المتوفى سنة 478 للهجرة، نجد فيه كلاما علميا دقيقا ومفصلا لقضايا الزمان والمكان والحركة والمقاومة والكون والطبيعة وعشرات المسائل والمفاهيم الفيزيائية الدقيقة التي تملأ أكثر من 400 صفحة، بكل عمق وعبقرية، كل هذا وعنوان الكتاب «الشامل في أصول الدين»! كيف نفهم هذا؟ ببساطة لأن أصول الدين الإسلامي قائمة على العلم، وفهم العالم والطبيعة أحد أهم مفاتيح الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ففهم الحركة والزمان والتغير والاتصال والتجدد والمطلق والنسبي وغيرها من مفاهيم الطبيعة توصل بلا أدنى شك لمعرفة الله عز وجل، والإيمان يقينا بقدرته المطلقة وحقيقة وجوده وخلقه لهذا العالم من العدم.
وما تخلفنا وضياع هويتنا وهواننا على الأمم اليوم إلا بسبب تفريطنا في العلم والفلسفة.
يروي د.محمد باسل الطائي، أستاذ الفيزياء الكونية الكبير حادثة جرت معه، يقول عندما أكملت دراسة الدكتوراه وعدت لوطني ومدينتي «الموصل» (شمال العراق، تبعد حوالي 460 كلم عن بغداد) سألتني إحدى طالبات الدراسات العليا في قسم الفيزياء: ما عنوان رسالتك للدكتوراه؟ قلت لها: اللحظات الأولى لخلق الكون.
فردت باندهاش وقالت: أووف، يا لطيف، باطل.. ما هذا الذي تقوله يا دكتور؟ أنت تبحث في مسألة لا يجوز البحث فيها!
قال لها: لماذا؟
قالت: هذا عمل الله.. كيف تبحث موضوع «اللحظات الأولى لخلق الكون»؟!
قال لها بهدوء.. ألم تقرئي قول الله عز وجل في سورة العنكبوت (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)؟
قالت وهي مصدومة.. والله يا دكتور، مع أنني أقرأ القرآن وأستمع إليه دائما، لكن كأنني أسمع هذه الآية لأول مرة في حياتي.. أرجوك أعد الآية.
يكمل د. الطائي حديثه ويقول.. ذهبت الطالبة ويبدو أنها ذهبت لمراجعة الآية الكريمة، ثم عادت إلي بعد فترة وقالت: هل تعرف يا دكتور لماذا قال الله عز وجل (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).. لماذا أمرنا أن نبحث في «بدء الخلق»؟
قال لها: حتى نزداد يقينا وإيمانا على ما أعتقد.
فقالت: ولكن كيف؟ كيف يفيدنا البحث في بداية الخلق في الإيمان تحديدا؟
قال لها: ماذا تريدين أن تقولي؟
قالت: تأملت في الآية ويا سبحان الله، فجأة بزغ هذا النور في قلبي وفهمت.. الله أمرنا أن نبحث في بداية الخلق، حتى نفهم ونؤمن بالبعث والحياة الآخرة، لذلك قال في تكملة الآية: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ الآخرة، إن الله على كل شيء قدير) العنكبوت 20. أي أن الله يعلمنا، يقول لنا انظروا وتأملوا في بداية خلق الكون، لتفهموا أن الله القادر على هذا الخلق والإيجاد من العدم في الحياة الدنيا، قادر كذلك على خلق وإنشاء حياة آخرة. لذلك أيقنت الآن أنه لا ينبغي علينا أن ننظر لبداية الخلق على أنه من «علم الغيب» ونتجنب بحثه، بل من ضروريات الإيمان.
يقول د.الطائي.. تعلمت من هذه الطالبة فعلا ما كان غائبا عني طوال سنين دراستي.
د.محمد الطائي يعمل منذ سنوات على مشروع إعادة إحياء «علم الكلام»، في الجانب العلمي منه تحديدا والذي يسمى «دقيق الكلام»، والذي يختص بمسائل الكون والطبيعة، ويدعو إلى تجاوز البحث في «جليل الكلام»، أي مسائل الأسماء والصفات والقضايا النظرية الأخرى والتي تعيد اجترار قضايا خلافية لا ينتج عنها سوى التكفير المتبادل!
[email protected]