مشهد ظل عالقاً في ذهني لثلاثين عاماً لأن فيه التحام الوفاء بالذكاء الديبلوماسي، واستخراج الشهامة في مواقف العزاء.
الكويت في أصعب ظروف محنة الغزو، وبعد مغادرة الوفد الشعبي الكويتي برئاسة الشيخ سلمان دعيج الصباح العاصمة النرويجية (أوسلو) في 18 ديسمبر 1990، كانت الكويت المهمومة بالتخلص من الأقدام الهمجية لأشاوس شيطان بغداد ترد للنرويج موقفها المبدئي والأخلاقي الشاجب للغزو العراقي الآثم، فجاء السابع عشر من يناير 1991 يحمل للنرويجيين خبر وفاة الملك أولاف الخامس الذي لا يختلف نرويجيان على محبته!
سيقول قائل: لكن الديبلوماسية الكويتية ليس لديها وقت لتنظر للشمال، فعيونها الواسعة محدقة في الجنوب، فكيف سترد العرفان بالجميل لبلاد شمس منتصف الليل؟
في صباح يوم جنازة الملك الراحل كانت همسات النرويجيين تنتقل من شاكر إلى أكثر شكورا، فالصحيفة التي توزع حينها 393 ألف نسخة يوميا، نشرت إعلانا مدفوعا من سفارة الكويت في لندن لتقديم العزاء في رحيل الملك أولاف الخامس!
نصف صفحة باللغتين العربية والنرويجية باسم صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، وسمو الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، رحمهما الله، كادت تصبح حديث البلد كله.
كانت الكويت المنشغلة بتخلصها من جحافل غوغائية ترد للنرويج الشكر عزاء في ملكها الراحل، فكانت الدولة العربية الوحيدة التي أرسلت ممثلين اثنين بالزي العربي وهما وزير التعليم العالي د.علي الشملان وسفير الكويت في المملكة المتحدة الأستاذ غازي الريس!
فهم النرويجيون مساحة التحضر في الواجبات الدولية لدى الكويت، وأن العزاء قيمة قبل أن يكون تعاطفا أو مجاملة.
مشهد استغرق عدة ساعات، وإعلان لم يدم لأكثر من يوم كسبت بهما الكويت دولة اسكندنافية ظلت واقفة معها حتى انحسار آخر حذاء عسكري عراقي دنس أرض جيرانه!
التاريخ يكتب، وسيأتي أناس يقرأونه، وسيفتح تلاميذ وطلاب المدارس في الكويت كتبهم للتاريخ، فيعرفون أن كويتهم ليست نفطا وثراء وكفيلا فقط، لكنها ثقافة ومعرفة و(العربي) والإعلام والديبلوماسية المدافعة عن الحق!
وسيعرف التلاميذ والطلاب أن لدى الديبلوماسيين الكويتيين كانت قضية حقوق الفلسطينيين قبل أي شيء آخر حتى لو وقف أبوعمار (رحمه الله) ضد أماني وأحلام من انطلقت ثورته للتحرير فوق أرضهم، فاختار هوس وخرافة وخزعبلات المحافظة التاسعة عشرة.
ثلاثون عاما تمر اليوم (17 يناير 2021) على مشهد الوفاء الكويتي للنرويج في أحزانها قبل أفراحها، فديبلوماسية سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أسكنه الله فسيح جناته، كانت المصالحة قبل المطارحة، والابتسامة قبل ظهور العتاب، واجتماع جدة مع عزة الدوري الذي ظهرت خلاله أنياب رئيسه الشيطان قبل اجتماع القاهرة الذي أرسل قبله اتحاد الكتاب التونسيين رسالة تأييد لمهيب بغداد لاستعادته المحافظة التاسعة عشرة كوطن عراقي سليب!
في أوقات الغدر يصبح الوفاء طريقا شاقا، لكن الكويت كانت هي الأكبر رغم صغرها، وكانت هي الأوفى رغم همومها، وكانت هي الحرة رغم ثقل الأقدام الهمجية فوق ترابها.
تحية تقدير للديبلوماسية الكويتية، وأخص بالذكر السفير آنذاك غازي الريس والسكرتير الأول وليد الخبيزي الذي كان خلية نحل بمفرده تلسع أباطيل خصوم الكويت!
أتمنى أن تظل الكويت توأمة الوفاء دائما، وهي الآن في اليد الأمينة لصاحب السمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، رعاه الله!