يقول أحد المعلمين: كنتُ أُدرس الصف الثالث الابتدائي في مدرسة للبنات في بلدي السودان.. ويوميا اشاهد بنتا صغيرة تجلس خارج المدرسة بجانب شباك الفصل تبيع الخبز في الصباح.
وهذه البنت من عائلة فقيرة، والدها متوفى، وهي تعيش مع امها وأربعة إخوة، وتبيع الخبز صباحا لتساعد امها في مصاريف البيت واخوتها الاربعة الذين يتعلمون في المدرسة.
يكمل المعلم حديثه، فيقول: في احد الايام كنت اشرح درسا في الرياضيات، وسألت الطالبات سؤالا صعبا خصصت له جائزة، لمن تعرف الإجابة عنه، وللأسف لم تجب ولا طالبة عن سؤالي! وفوجئت ببائعة الخبز تصرخ وتقول: استاذ.. استاذ انا اعرف الإجابة، وبالفعل كانت إجابتها صحيحة!
هنا قررت ان اتكفل برعايتها على نفقتي ومن مرتبي القليل، لأساعدها على التعلم. واتفقت مع مدير المدرسة ان يتم تسجيلها في المدرسة بحيث تشارك في الاختبارات دون دخولها للفصل، على ان تبدأ دراستها من الصف الثالث الابتدائي، واتفقت مع جميع المعلمين على ان تتعلم الفتاة الدروس مستمعة من الشباك، ووافق الجميع، وفي نهاية العام الدراسي كانت بائعة الخبز الأولى على المدرسة. وهكذا كنت ارعاها وأتابعها حتى وصلت الى الصف الأول الثانوي.
كبر احد اخوتها وعمل ببيع الماء وتكفل هو بالصرف على اسرته.
يكمل المعلم حديثه، فيقول: جاءني كتاب للعمل بالخارج فسافرت.. ولم يكن عند اهل الفتاة تلفون لأتواصل معها واعرف اخبارها.
وبعد 16 عاما عدت الى بلدي السودان، ومعي صديق من الدولة التي اعمل فيها لديه ابن يدرس الطب في جامعة الخرطوم.
ذهبت مع صديقي لزيارة ابنه في الجامعة، وجلست في الكافتيريا، فإذ بامرأة جميلة تنظر إليّ بشوق وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأتني.. وأنا لا أدري لمَ تُطيل النظر إليّ.. سألت ابن صديقي عنها وأشرت إليها خلسة فأجابني: إنها بروفيسورة تدرس في كلية الطب. فسألني: هل تعرفها يا عمي؟!
قلت: لا، ولكنها تنظر إليه وكأنها تعرفني.. وفجأة جرت هذه المرأة نحوي واحتضنتني وعانقتني وهي تبكي بصوت لفت أنظار كل من في الكافتيريا، وظن الجميع اني والدها!
فقالت: ألا تذكرني يا أستاذي.. أنا بائعة الخبز.. أنت صنعت مني إنسانة ناجحة.. وبفضل الله ثم رعايتك واهتمامك بي وموقفك الانساني العظيم، وصلت الى ما وصلت إليه.
فكدت ان اقع مغشيا عليّ من دهشتي وتأثري وفرحتي بها.
ثم دعتني إلى منزلها وأخبرت امها وإخوتها عني، وأخذت تتحدث عن إنسانيتي وموقفي معها، وكيف كنتُ سببا في تغيير مجرى حياتها.. فقمتُ وألقيتُ كلمة قصيرة قلتُ فيها وأنا أبكي:
«لأول مرة في حياتي اشعر أني معلم وإنسان».
هكذا يكون المعلم أبا وإنسانا ومربيا للأجيال، يصنع المعروف والإحسان، يساعد كل طالب يحتاج إلى المساعدة، يقف مع طلبته في السراء والضراء، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، لأنه صاحب رسالة عظيمة وأمانة ثقيلة، حملها المعلم بعد ان عجزت عن حملها السماوات والأرض، وكما قال الشاعر:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
اقرأ واتعظ: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير».