لم أكن أتصور أنني سأكتب مقالا يحاكي واقعا قصصيا يتنامى مع حناجر القلب والقالب، ولم أكن أتشجع لأترنم حزنا لولا التراتيل العائمة في ثنايا الروح والمصير، نعم عشت دقائق تفاصيل اللحظات الوجدانية كما عاشها غيري من كان قريبا على أرض الحدث المؤلم ولكن شعور الملهم النازف ليس كشعور المتعاطف الصامت وكأني أرى الأحلام قد تداخلت خيوطها وتآكلت أمشاطها وتراقصت فتائلها على جبين التعبير الواقعي الذي رأيناه واضحا وضوح الشمس في غرة النهار، فكبوة الجواد الأصيل التي جعلت سيدة المجد أرضا على عقب قد أعلنت أن يوم الخميس هو الموعد المرتقب لبناء مسار جديد ينقل هذا الجسم الناعم فوق ظهر الاختبار الأول الذي منه سيتحدد من هو ومن هي ومن هم ومن هن ومن هؤلاء أمام الهيكل الضعيف النازف طهرا بين الزفرات الشاهقة والنبضات المؤلمة، فأكرم وأنعم من جسد نام واستراح على ألواح الأكف الحانية والعيون الباكية والضمائر الفتيه. هرعنا وهرع الناس وطارت الأبصار قبل الأجساد الى بوسطن لانقاذ ما يمكن إنقاذه أمام الهول الذي ترك اثرا داميا ومرعبا على محيا الأنفس التي تتنهد وتتقطع اربا اربا في كل لحظة وحين وكأن الثواني تعادلت مع السنون، والسنون تمزقت عمرا ودهرا، فلحظات البكاء والصراخ والأمل والألم والدعاء والرجاء قد تداخلت وتزاحمت وتفككت وانصهرت أمام عظمة الله وجبروته وقدره المحتوم، ولا عجب فهو القائل سبحانه وتعالى (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)، والقائل سبحانه وتعالى (قال من يحيي العظام وهي رميم)، والقائل عز وجل (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، عندها سلم القوم «فارسة الوجبة» لخالقها وأيقنوا أنها في معيته الكريمة ورحمته وملكوته الواسع فتوكلهم عليه وبذلهم لأسباب الشفاء قد انتهى ولم يبق الا وجه الله، ليطيروا تعبدا وانكسارا وخشية وطلبا ومآلا. هرع الأطباء فما وجدوا غير عصفورة صغيرة بين الحياة والموت وقد تكسرت أجنحتها وأطرافها الضعيفة والمجهول يجثم على صدرها ورأسها وما هي إلا تمتمات باسم زوجها وأهلها وصديقتها ورموز تحاكي لحظات دراستها في برلين الألمانية وهي تتطلع لأن تكون دكتورة في تخصص القلب، وهي من شهد عليها الأقربون بأنها القلب الكبير الذي حمل هذه البسيطة على عاتقه دون أف أو كلل أو ملل علاوة على تبني دور لليتامى ومدارس وأسر وعوائل، وصدقات ومشاريع كثيرة من هنا وهناك، عندها قلت في قرارة نفسي أقسم بجلال الله إن الله لن يضيعها وسيشفيها وسيرجعها الى أهلها سالمة غانمة، وما هي الا أيام وقد استعادت قليلا من ذاكرتها الى أن تكاملت وعيا في الخروج من الغيبوبة التي ألمت بها، وها هي تتجهز وتتأمل لتطير كالعصفورة البريئة التي اشتاقت لخمائلها وأزهارها ورياحينها، لتحيي قلوبا دامية في برلين الطموح ولتستكمل ما تبقى من مواد تخرجها لتكون دكتورة القلب المرتقبة بإذن الله.
لا أريد أن أخوض في نبضات وشرايين الحدث المؤلم، لكن يكفيني اشارة وتلميحا وتصديقا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأن الميت لا يموت قبل أجله المكتوب، وأننا شهداء فوق أرضه وتحت سمائه، وأن كل خبيئة خالصة لوجهه الكريم ستكون كالمظلة فوق رأس فاعلها وغارسها وقاطفها.
[email protected]
engmubarakq8@