ناصر الخالدي
أعينهم كانت تفيض حزنا وألما، ومنذ الوهلة الأولى عرفت أن الحياة استبدت بهم أيما استبداد، فصنعت منهم هذا التشتت وأوجدت منهم هذا الضياع، وتحدثنا لدقائق معدودة فعرفت أسماء بعضهم وعرفت بعض ما يجول في أذهانهم من أفكار وتطلعات متواضعة وألقيت عليهم نظرة الوداع ثم خرجت وهم خلفي ينظرون إلى الحرية بعين البائس المشتاق، فقد مرت أيام وهم خلف الجدران لا يعرفون إلا المراقبة والقيد والحرمان، كل هذا ليس ظلما ولا جورا وإنما نتيجة اختيارهم الذي اختاروه بإرادتهم فلا يلومون إلا أنفسهم.
كانت الزيارة قبل فترة طويلة إلا أنني أذكرها اليوم حتى أعتبر بها أولا، ثم يعتبر بها من شاء أن يعتبر، فأغلب مواقفنا في الحياة عبر الزيارة كانت إلى نيابة الأحداث واللقاء كان بيني وبين مجموعة من الشبان المراهقين الذين ارتكبوا أخطاء متفرقة كانت سببا في دخولهم إلى حيث القيد والأمر والنهي وحيث الحزم والرقابة بعيدا عن الأهل والأصدقاء ليكونوا سببا في أحزان أمهاتهم وآبائهم، وأذكر حتى هذه اللحظة ملامح ذلك الشاب الذي كان يرنو إلى النافذة بعين تحمل نظرات التائه الذي لا يدري إلى أين يسير وماذا ينتظره بعد هذا المنفى؟ كأنه يريد البوح ولكن الظروف أجبرته على الكتمان، ينزوي بعيدا عن رفاق المنفى ويهيم في بحر التساؤلات يطرحها دفعة واحدة ثم يفصل إجاباتها تفصيلا ويكسر الوهم ثم يجمع الوهم مرة ثانية ويكتب كلمات الشوق والحنين ثم يمسح الذي كتبه ويبكي ثورة الندم ولكن لا ينفع الندم.
ليس عيبا ولا خجلا أن يخطئ المرء، فلكل واحد منا نصيبه من الأخطاء، ولكن العيب كل العيب أن يستمر الواحد منا بالخطأ، ويرتكب المصيبة وبعدها مصائب ويخجل من التوبة ويفرح بالذنب والمعصية، العيب ألا يعتبر الواحد منا من السجن والعزلة ومن نظرات الناس ومن كلامهم وأن يمشي في درب الضلال، وكأنه يمشي بين الورود والأغصان، يبيع المستقبل والماضي من أجل الحاضر الذي لا يساوي شيئا، مادام أنه بوابة إلى الضياع والتشرد.
الآن وأنا أكتب عن تلك الزيارة أستشعر طعم الحرية وأستنشق هواءها وأتفكر فيها فأجد لها لذة وطعما خاصا، ومن لم يذق طعم الحرية فكأنه لم يذق من الحياة شيئا، ولا يعيب الإنسان قيد أو حرمان إلا إذا كان هو من وضع القيد بيده، وهو من كتب على نفسه الحرمان، ولا جدل في أن كل شيء له قدر ولكن الإنسان مخير وليس مسيرا، فيا أيها القارئ الكريم أنا لا أطلب منك أن تحرر المقيدين ولا أطلب منك أن تقيم الندوات والمحاضرات الخاصة بالحرية ولكنني أطلب منك ألا تتنازل عن حريتك فتصير أسير عادة سيئة أو أسير فعل تدفع تبعاته إلى نهاية العمر، لا أطلب منك أكثر من أن تدافع عن نفسك وتعبر عن كل ما بداخلك، فالكلمة قد تفعل أشد من فعل الحسام المهند، فلا أقل من كلمات تقولها فتستريح من عناء الصمت ومكابدة الألم.
أخيرا وكما يقال دائما لا يوجد مجرم وُلد على الجريمة ولكنه عاش في بيئة ساعدته على أن يكتسب كل ميول الإجرام فيتقن كل عمليات النصب والاحتيال ويتجاوز كل اختبارات الغدر والانحطاط وتمتد علاقاته الإجرامية وسمعته اللاأخلاقية فيصير مجرما مع مرتبة الشرف وتصير له تجارب وسوابق ويدخل الأحداث ثم يتخرج إلى المستوى الثاني ويتدرج في سلم الانحطاط، إلى أن يصل إلى ذروة التخلف والتمرد ليصير عالة على أسرة أعطته كل ما يريد ووطن كان له فوق ما يتمنى ويريد، ولهذا فإن كل الإجرام الذي نعيشه اليوم يحتاج إلى تدخل من قبل الأهل وكان الله في عون الإخوان العاملين في نيابة الأحـــداث وفي السجون لما يجدون من صعوبات لا توصف.
رسالة
قبل أيام حدثت ضجة بسبب وجود كتب لاأخلاقية في كلية الدراسات التجارية بنات، أتمنى أن تكون الضجة من أجل الغيرة على الدين ولحماية أعراض المسلمين، وألا تكون حركة سياسية متعمدة لأن أسلوب الإنكار لم يكن بطريقة جيدة، خصوصا أن الكلية نفسها فيها أمور كثيرة تحتاج إلى الإنكار.