فوجئ بصدور قرار وزراي بتكليفي ممثلا عن وزارة الشؤون في لجنة استحدثت للعمل في مجلس الوزراء الموقر. اتصل بي قائلا (تعال حالاً أبيك) قلت حاضر بو يوسف لكن أنا حاليا أنفذ تكليفك لي بتسلّم أحد مراكز تنمية المجتمع المشيد حديثا، وأن اللجنة التي شكلتها بقرار منك لتسلّم هذا المبنى لم تنه عملها! قال اترك اللجنة وتعال فورا. وصلت مكتبه وإذ بأحد سكرتاريته يستعجلني بالدخول عليه، دخلت وإذ به واقفا عند أحد نوافذ مكتبه على غير عادته، استشعر دخولي فأدار جسده تجاهي وبيده ورقة وهو يركز نظراته علي، ثم يهمّ بتسليمي إياها.. تفضل اقرأ.. تسلّمت الورقة وإذ بقرار وزراي بتكليفي بالانضمام لتلك اللجنة. بادرت على الفور بتقديم عظيم تقديري وامتناني على تلك الثقة.. قاطعني قائلا: هل كنت تعلم بهذا القرار قبل صدوره من معالي الوزير؟ قلت لا يا بو يوسف.. قال.. ولا أنا ! قلت لعله خير، فإن اختياري ضمن أعضاء هذه اللجنة لم يكن لولا تزكيتك لي، فلك مني عظيم الثناء، قال (أشلون) يصدر قرار مثل هذا دون علمي؟ قلت لا أعلم، قال (خلاص) ارجع من حيث أتيت وأكمل مهمتك، رجعت ولم أدرك ما يدور بخلده إلا بعد تجارب سنين مضت من العمل اختزلها لي بو يوسف بهذا الموقف الذي يعبر عن قيمة مهنية رائعة تحمل في طياتها عدم تخطي آراء من تعمل معهم أيا كان منصبه فالمشورى واحترام الرأي من احترام البشر.
من جانب آخر، وقبل أن يتهمني بتدبير الأمر من ورائه بصدور مثل هذا القرار دون علمه، استدعاني بنفسه وقام بالاستفسار عن حقيقة الأمر قبل ألا يقوده سوء الظن بموظف مثلي، لذلك استوجب التأكد بنفسه وأزال أية شكوك قد تدور حولي. نعم تلك هي قيم الأمانة الوظيفية في تدارس أي أمر مشبوه قبل كيل التهم جزافا مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
ومن القيم التي زرعها فيّ المزروعي، رحمه الله، عندما حضر يوما لافتتاح أحد مشاريع الوزارة التنموية الخاصة بفئة الأسر التي تتقاضى مساعدات مالية من الوزارة حيث كان كاتب السطور ينفذ أحد الخطط التي رسمها والمتعلقة بتنمية الجوانب المادية للفئات التي تتقاضى مساعدات مادية من الدولة حيث باكورة هذه المشاريع في نجاحنا بتحويل العناصر المستهلكة الى عناصر منتجة تعتمد على إنتاجها اليدوي إذ بلغ عددهم (111) حالة تأكد اعتمادها على نفسها ونسيت (شي) اسمه مساعدات مالية من الدولة وعليه كان الاحتفال ذا طابع مختلف.
وكان حضور المزروعي يشكل بعدا آخر لإيمانه بهذه التجربة، وكونه راعي هذا الحفل اجتمع حوله الصحافيون ليأخذوا منه كلمة بهذه المناسبة: هل صحيح أنكم كوزارة أغلقتم (111) ملف حالة من الحالات اللاتي تتقاضى مساعدات من الدولة وقمتم بتوظيف بعضها وتحويل البعض الآخر لعناصر منتجة تعتمد على نفسها؟ كان جميع الصحافيين ينتظرون الإجابة من عبدالرحمن المزروعي وكيل وزارة الشؤون الأسبق، رحمه الله، لكنه لم يجب، وأخذ يلتفت يمينا ويسارا يبحث عن شيء ما جاعلا الصحافيين في حيرة من أمرهم، وفجأ (طاحت) عين المزروعي على من كان يبحث عنه، حيث كنت أقف بعيدا، ثم قال لهم وهو يشير بيده علي (اسألوه) قاصدا توجيه السؤال لصاحب الفكرة والمشروع ثم غادر على الفور.
هكذا كان المسؤول المتجرد عن ذاته، والذي يعلم أن زراعة الثقة وتعزيز القدرات المهنية تنطلق من إدراكه بمهنية المرؤوس وترك البروز الإعلامي له ليتحدث عن إنجازاته. رحمك الله يا عبدالرحمن المزروعي.
أيام مرت على فراقك، وسنين من العمل معك لا تنسى فكنت الإنسان المسؤول والمسؤول الإنسان.